يتحدث جمال حمدان عن عبقرية المكان عند مصر. يمكن هنا الكلام عن شيء مماثل عند روسيا،التي لديها مثل مصر مكاناً تلتقي فيه القارات، وتحيط بها حضارات مختلفة من الغرب الأوروبي والجنوب المسلم والجنوب الشرقي الصيني. ولكن هذا أيضاً يمكن أن يولد شيئاً بسبب أهمية الموقع الجغرافي هو لعنة المكان، من حيث تشتت الميول الحضارية لسكان المكان المعني، ومن حيث أن يكون هذا المكان موضعاً لطمع الغزاة، وروسيا تعرضت لغزوات كبرى من المغول بالقرن الرابع عشر الذين دمروا الدولة الروسية الأولى، ثم نابليون بونابرت عام 1812، ثم هتلر عام 1941.
وفعلاً، روسيا عاشت منذ الدولة الروسية الأولى التي اعتنقت المسيحية كدين رسمي في عام 988 حيرة انتماء المكان، عندما اختارت آنذاك المذهب الأرثوذكسي لتكون “قبلتها” في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وليس في الغرب الأوروبي عند كاثوليكية روما، وقد قاد هذا لأن يكون هناك تزاوجاً بين الأرثوذكسية والسلافية كنزعة روسية معادية ومفارقة لنزعة التغريب التي أطلقها بطرس الأكبر 1682-1725 والذي نقل العاصمة من موسكو شرقاً إلى المدينة غرباً التي سميت باسمه على بحر البلطيق.
وفي هذا الصدد، فإننا نجد التاريخ الروسي في الثلاثمئة عام التي تفصل عن بطرس الأكبر يتقاسمه النزاع بين النزعتين السلافية والتغريبية، حيث نجد خطاً تغريبياً يمتد من بطرس الأكبر إلى الحركة الديسمبرية عام 1825 ثم الأديب ليوتولستوي وصولاً إلى الماركسية الروسية بفرعيها المنشفي والبلشفي، فيما النزعة السلافية وجدت في القرن التاسع عشر عند القياصرة الروس الذين عادوا ثورات الغرب الأوروبي وموجاتها التحررية وعند الكنيسة الأرثوذكسية وعند الأديب دوستويفسكي وصولاً للفيلسوف بيرديائيف، فيما نجد الليبراليون الروس بمرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي يميلون للنزعة التغريبية، بينما الكنيسة الأرثوذكسية في الجانب السلافي، أما فلاديمير بوتين فهو حائر على ما يبدو بين السلافية والتغريب.
هنا، كان لينين واعياً بأن ثورة أكتوبر هي طريق تغريبي تمديني لروسيا، وهذا واضح من مقالته: “حول ثورتنا” في عام 1923، ولكن ستالين بفترة 1925-1927، وبعد فشل الثورات الشيوعية في ألمانية والمجر، اختط طريق “الاشتراكية في بلد واحد” وبدأ الحديث عن “القلعة الاشتراكية المحاصرة” من قبل الغرب الأوروبي، لذلك ضغط على الشيوعيين الصينيين من أجل الاندماج مع (حزب الكيومنتانغ) القومي بزعامة تشانغ كاي شيك، وهذا من أجل الوصول إلى تحالف سوفياتي- صيني يخفف من عزلة الدولة السوفياتية الوليدة، ولكن لم تنجح مساعي ستالين واصطدم الشيوعيون وشيانغ كاي شيك طوال عشر سنوات حتى بدء الغزو الياباني للصين عام 1937عندما تحالفا ضد الأجنبي حتى عام 1945 عندما هزم اليابانيون، ثم انتصر الشيوعيون عام 1949 وطردوا القوميين إلى جزيرة تايوان.
بدوره، وأمام الخطر الألماني النازي المتوقع من الغرب، حاول ستالين عقد ميثاق دفاعي مع فرنسا وانكلترا، وعندما فشل عمل المعاهدة مع هتلر بعام 1939 لتأجيل حرب رأتها موسكو حتمية مع الألمان ولتطويل المسافات أمامهم عند الهجوم ما دامت المعاهدة قد قسمت بولندا بين الطرفين. هنا، كان هتلر خطراً غربياً على روسيا، وعندما انتصر ستالين على هتلر عام 1945، وكان المساهم الرئيسي في هزيمته ضمن قوات الحلفاء، رأى الأوروبيون والأميركان في الاتحاد السوفياتي خطراً على الغرب ما دامت الكتلة السوفياتية قد وصلت جغرافياً حتى عمق الغرب الأوروبي، وما دام الشيوعيون السوفيات يحملون مشروعاً فكرياً- سياسياً لنظام اقتصادي- اجتماعي جديد معادي للرأسمالية وجدت له امتدادات عند أحزاب شيوعية أوروبية.
مع هزيمة الاتحاد السوفياتي وتفككه امتد حلف الأطلسي إلى جمهوريات البلطيق الثلاث وإلى بولندا، والأزمة الأوكرانية منذ عام 2014 بين موسكو وواشنطن سببها رغبة كييف في الانضمام لحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وهو ما تشعر تجاهه روسيا بالخطر من حيث أنه تهديد لأمنها القومي بحكم التلاصق الجغرافي، وبحكم أن الحاجز الجغرافي الأوكراني سيجعل روسيا معزولة عن أوروبا بجدار معادي إذا استثنينا بيلاروسيا، ولأن الغرب الأميركي- الأوروبي يريد من خلال ذلك أن يعيدها لوضعية الدولة التي كانت قبل تطلع بطرس الأكبر نحو الغرب، وهو ما يولد مع احتمالات غزو روسي لأوكرانية الآن أكبر أزمة في العلاقات الدولية بمرحلة ما بعد الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.
بالمحصلة: روسيا بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453 فقدت “قبلتها الجنوبية” وأصبح الجنوب العثماني مصدراً لثلاثة عشر حرباً مع روسيا منذ نهاية القرن السابع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى. الغرب منذ بحث بطرس الأكبر عن “قبلة غربية” غزا روسيا لمرتين ودخل مع موسكو في حرب باردة بين عامي 1947 و1989، وهي تراه الآن يحاول عزلها وتهميشها عبر توسع حلف الأطلسي شرقاً. لم يبقى لموسكو فلاديمير بوتين سوى “مصالحة” مع الغرب تقود إلى حياد أوكرانيا على الطراز الفنلندي أو غزو روسي لأوكرانيا بكل ما يحمله هذا من مفاعيل ستوازي مجابهة واشنطن وموسكو في الحرب الباردة وربما تفوقها.