بات تسريب أنباء عن لقاءات تركية- سورية رفيعة المستوى على مستوى الاستخبارات ووزارة الخارجية من الأمور المثيرة في الأشهر الأخيرة، واللافت أن معظم هذه التسريبات تصدر عن وسائل إعلام تركية.
ولعل أخر هذه التسريبات، كانت من قبل صحيفة تركية على علاقة وثيقة بحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، عندما تحدثت عن لقاء رفيع المستوى عقد مؤخراً بين الجانبين في الأردن بحضور مسؤولين من دول عربية.
واللافت أكثر ما جاء عن مضمون المحادثات خلال اللقاء، إذ تم بحث إعادة إعمار حلب بدور تركي وتمويل خليجي، فضلاً عن حملة تركية-سورية مشتركة لمحاربة الإدارة الذاتية في شرق الفرات باسم مكافحة الإرهاب في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، بحسب الصحيفة التركية.
ومع أن الأردن سارع إلى نفي صحة الخبر جملة وتفصيلاً، إلا أن اللافت أنه لم يصدر أي نفي من دمشق ولا من أنقرة، وهو ما أثار استفهامات كثيرة حول ما إذا كان اللقاء قد عقد بالفعل، وأن يكون النفي الأردني لأسباب لها علاقة بالسياسة الأردنية الجديدة تجاه دمشق، حيث خطوات التطبيع جارية بين الجانبين على قدم وساق.
كما أن التزام دمشق بالصمت أثار تساؤلات، لاسيما أنها نفت بشدة التسريبات السابقة لوكالة سبوتنيك الروسية في وقت سابق، عندما تحدثت عن لقاء أمني تركي- سوري رفيع المستوى في العاصمة العراقية بغداد، بل إن دمشق استغلت وقتها هذا التسريب لشن حملة شديدة ضد تركيا واحتلالها لمناطق في شمال سوريا وشرقها. في الواقع، قد يبدو الحديث عن لقاءات سورية- تركية في هذا التوقيت غريباً، بسبب العداوة الكبيرة بين الجانبين والاحتلال التركي لمناطق واسعة من سورية.
إضافة للدور الكبير الذي لعبته وما زالت تلعبه تركيا في مجمل الأزمة السورية، لاسيما دعم الجماعات الإرهابية واحتضان المعارضة السورية، وذهابها بعيداً في الدعوة إلى إسقاط النظام السوري قبل أن تتخلى عملياً عن هذه الدعوة، وتحصر أولويتها بمحاربة الإدارة الذاتية بحجة مكافحة الإرهاب.
لكن رغم كل ما سبق، ثمة مؤشرات تتضافر وتوحي بإمكانية حدوث تحول في علاقة الجانبين، لأسباب داخلية تتعلق بكل طرف وأخرى إقليمية لها علاقة بمسار صراع القوى الكبرى في الأزمة السورية، ولعل من أهم هذه المؤشرات:
- جملة التحولات التي تشهدها السياسة التركية تجاه الدول العربية، لاسيما مصر ودول الخليج العربي، حيث يستعد الرئيس التركي أردوغان لزيارة الإمارات والسعودية خلال الشهر المقبل.
وإذا كان العنوان الأساسي للتحولات التركية هذه، هو إصلاح العلاقات التركية مع الدول العربية، بعد أن ذهبت الحكومة التركية بعيداً في عدائها عبر دعم جماعات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين ) في هذه الدول، فإن أردوغان يندفع في هذا الاتجاه تحت وطأة أسباب داخلية بالدرجة الأولى، تتعلق بالوضع الاقتصادي التركي مع الانهيار المتسارع لقيمة الليرة التركية أمام الدولار، وانعكاس ذلك على شعبيته، في وقت تستعد تركيا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية منتصف العام المقبل.
وأردوغان يدرك هنا أن إمكانية تطبيع العلاقات مع هذه الدول والحصول على دعمها المالي، لابد أن يمر عبر مراجعة السياسة التركية تجاه الأزمات الجارية في عدد من الدول العربية مثل سوريا وليبيا.
وتحظى سوريا بأهمية كبيرة في استراتيجية أردوغان الجديدة، نظراً لأنها تشكل الجسر البري للتجارة التركية إلى دول الخليج العربي والأردن ومصر، حيث يريد أردوغان تحقيق تطورات على مستوى السياسة الخارجية لوضعها في خدمة حملته الانتخابية.
- 2- توافُق أنقرة ودمشق المسبق على وأد تجربة الإدارة الذاتية التي تشكلت في شرق الفرات خاصة وأنها باتت تشكل قوة حقيقية على الأرض بعد ان أثبتت جدارتها في محاربة داعش وإلحاق الهزيمة به.
وفي الأساس باتت محاربة تركيا لهذه الإدارة تشكل جوهر السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، ولهذه الغاية شنت ثلاث عمليات عسكرية (درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام).
ولعل الخيط الذي يمكن أن يجمع دمشق وأنقرة في هذا المسعى القديم الجديد، يمر عبر اتفاقية أضنة عام 1998، إذ أن الجانب الأساسي من هذا الاتفاق يتعلق بالتعاون المشترك في محاربة حزب العمال الكردستاني ونفوذه، مع فارق ملاحظة أن تركيا تريد تعديل بنود هذه الاتفاقية، وتحديداً فيما يتعلق البند الذي ينص على السماح بالتوغل العسكري التركي لمسافة خمسة كيلومترات في الأراضي السورية بحجة مكافحة الإرهاب، فيما تريد تركيا المسافة المسموح لها بالتوغل 35 كيلومتراً.
3 – العامل الروسي وبدرجة أقل الإيراني، إذ كثيراً ما أبدت موسكو وطهران استعدادهما للقيام بدور الوسيط بين أنقرة ودمشق، فيما تقوم روسيا عملياً بمثل هذا الدور، سواء من خلال تنظيم ورعاية لقاءات أمنية مباشرة بين الجانبين أو من خلال القيام بدور تنظيم هذه العلاقة على الأرض وتحديداً في إدلب.
وهي تريد من وراء ذلك تحقيق جملة من الأهداف، في مقدمتها، القضاء على الجماعات المسلحة في إدلب عبر صفقات مع تركيا، وإضعاف النفوذ الأميركي في شرق الفرات على شكل تشكيل جبهة روسية- إيرانية- تركية- سورية، بما يؤدي كل ذلك إلى دفع الإدارة الذاتية لتسوية مع دمشق وفق شروط الأخيرة، وهو ما يشكل مطلباً تركياً لجهة القضاء على تجربة الإدارة الذاتية. 4 – إن ما يشجع أردوغان على اتخاذ خطوات دراماتيكية تجاه الأزمة السورية إلى درجة الانقلاب على سياسته السابقة، ليس التقاطع مع دمشق بخصوص الوضع في شرق الفرات، أو شروط التطبيع مع دول الخليج العربي ومصر فحسب، بل العامل الداخلي التركي المتعلق بمواقف قوى المعارضة التركية من الأزمة السورية.
ذلك لا لأن أردوغان لن يجد في الداخل التركي أي جهة تعارض توجهه نحو التصالح مع دمشق، فهو يكاد يجد نفسه في سباق مع زعيم المعارضة التركية كمال كليجدار في البحث عن إعادة تطبيع العلاقة مع دمشق، خاصة وإن مثل هذا التوجه بات محدداً للتصويت في الانتخابات المقبلة عبر التلويح بإمكانية التخلص من قضية اللاجئين السوريين في تركيا وإعادتهم إلى بلادهم.
والثابت ان أردوغان لن يجد حرجاً في ذلك، فهو معروف بقدرته على نسج التحالفات ومن ثم الانقلاب عليها أو العكس، فأردوغان يفكر أولاً وأخيرا بمستقبل سلطته واستمراره فيها. 5- إن الحكومة السورية ورغم خطابها القاطع لجهة التأكيد على ضرورة استعادة كل الأراضي التي احتلتها تركيا، فإنها قد تجد نفسها أمام عملية سياسية بدعم روسي وإيراني وبموافقة عربية للاندفاع نحو التطبيع مع تركيا.
وقد تجد الحكومة في هذه العملية مدخلاً لتعويمها، وجسراً لنيل الدعم الاقتصادي والمالي في وقت تعاني فيه من أزمات معيشية كبرى، وفي الأساس فإن التوافق بينها وتركيا بخصوص الوضع في شرق الفرات يشكل عاملاً مشتركاً. في الواقع، هذه التقاطعات في المصالح رغم العداء الكبير بين أنقرة ودمشق، هي التي تقف وراء التسريبات التي تظهر إلى السطح بين الفينة والأخرى حول عقد لقاءات أمنية رفيعة بين الجانبين.
وعليه، فإن قضية النفي من عدمه لا تبدو هي الجوهر بقدر حقيقة وجود تطلعات متبادلة على قاعدة المصالح المشتركة، تحددها قاعدة الصراع على أفضل الشروط في البحث عن فتح صفحة جديد، صفحة ستوجه الأنظار إلى الموقف الأميركي في ظل قانون قيصر، والتأكيد الأميركي الدائم على أن تعويم النظام السوري لا بد أن يمر عبر حل سياسي يحقق التغيير المنشود.