دمشق- نورث برس
لم يفقد محمود المحايري (65 عاماً)، الذي يعيش في حي الميدان جنوب غرب دمشق، شغفه وحبه لصناعة الموزاييك الدمشقى بعد مضي 30 عاماً على صنعه لأول قطعة فنية بمساعدة جده.
ويعمل الرجل كتاجر وصانع للموزاييك في محله وسط سوق الحميدية ويركز في عمله على صناعة القطع التراثية والفنية بمختلف أحجامها وأشكالها الهندسية.
يقول لنورث برس: “تعلمت الصبر ومراعاة التفاصيل الصغيرة من هذه الحرفة، فالقطعة الصغيرة مثل العلب التي تستخدم للزينة يستغرق صنعها من أسبوع إلى أسبوعين، أما القطعة الكبيرة مثل تصميم ديكور لغرفة فيستغرق صنعها شهراً أو أكثر”.
ويضيف: “عندما أقرر صنع قطعة ما، أعلم جيداً كيف سيبدو شكلها النهائي، فصناعة الموزاييك فن يحتاج إلى الخيال والإبداع”.

ولكن “المحايري” الأب لخمسة أبناء يشتكي كغيره من الحرفيين الذين يعملون في صناعة الموزاييك الدمشقي من تراجع حركة العمل بسبب ضعف الإقبال على الشراء.
ويتحسر على أيام خلت، ” كانت بيوت الدمشقيين وحقائب السياح آنذاك لا تخلو من قطع الموزاييك التي كنت أصنعها، واليوم لا يزور محلي سوى القليل من الأثرياء أو بعض الشباب الذين يكتفون بالتصوير مع هذه القطع”.
وقبل عام 2011، كان محل الحرفي قبلة لسياح من مختلف دول العالم وخاصة الإيرانيين والروس، إضافة إلى العرب من الدول الأخرى الذين كانوا يشترون مجموعة من القطع دفعة واحدة و”بأسعار معقولة”.
“لم تعد تشبع البطون”
وتعد صناعة الموزاييك من أقدم الحرف العريقة التي اشتهرت بها دمشق ويعود تاريخها لأكثر من 700 عام.
وفن الموزاييك هو إدخال مادة الصدف إلى جزئيات من أنواع خشبية مختلفة، حيث ينشر الخشب إلى أعواد صغيرة، تشكل في ربطها ألوان وأنواع مختلفة يتم تقطيعها بشكل شرائح، تجمع مع بعضها ليُصاغ منها الشكل المطلوب.
ويُعد بيت نظام ومكتب عنبر وقصر خالد العظم والسباعي والقوتلي من أشهر البيوت الدمشقية المزينة بهذه المادة.
ويحتل الموزاييك الدمشقي مكان الصدارة في أثاث الصالون في قصور رئاسية عالمية كقصر رئيس الجمهورية الفرنسية وقصر رئيس جمهورية المكسيك، بالإضافة إلى قصور خليجية متعددة.
ويدخل في صناعتها جميع أنواع أخشاب الجوز والكينا والليمون والورد الدمشقي والزان والمشمش والزيتون وغيرها.
وقد تكون القطعة الفنية المنجزة علبة صغيرة أو قطع أثاث للصالونات أو ديكورات مكاتب أو غرف نوم أو كراسي وأبواب وغيرها.
وحول أسباب تراجع الحرفة، يقول “المحايري” إن “الموزابيك لم يعد يشبع البطون الجائعة”، في إشارة منه إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها سوريا.
بالإضافة إلى قلة اليد العاملة، “فلم يعد شباب اليوم يرغب في هذا النوع من الحرف الأصيلة، فمعظمهم يفضل العمل في المهن التي تناسب عصرهم وتتسم بالبساطة والسهولة”.
ويعيد حرفيون لمهن تراثية تراجع أعمالهم للركود السياحي في البلد بسبب الحرب، فهذه المهنة كانت تعتمد بشكل كبير على السائح الأجنبي.
اقرأ أيضاً:
- الموزاييك الدمشقي… مهنةٌ فريدةٌ أطفأت الحرب بريقها
- حرفيو موزاييك في إدلب ينتجون لوحاتهم وسط الصعوبات والتشدد
“مهدد بالاندثار”
ويتخوف وليد البندقجي (55 عاماً)، وهو من سكان حي الصالحية شمال دمشق، من مصير صناعة الموزاييك بعد عدة أعوام، نتيجة التحديات والصعوبات الجمة التي تواجه الحرفيين.
ويقول صانع الموزاييك الذي يعمل في هذه الحرفة منذ أكثر من 35 عاماً إن “الوضع الراهن فرض شحاً في المواد الأولية، على الرغم من أن معظمها محلية الصنع، إلا أننا نجد صعوبة في تأمينها وخاصة أن الأسعار ارتفعت بنسبة عالية”.
شح المواد الأولية دفع بعض الحرفيين إلى استخدام البلاستيك بدل من الصدف الذي يلصق على الخشب، “الأمر الذي أدى لانخفاص سعرها وفقدانها لقيمتها التراثية والجمالية”، بحسب “البندقجي”.
وتختلف أسعار القطع الخشبية نظراً لاختلاف المواد الداخلة فيها، إذ لكل منها قيمة نقدية مختلفة عن الأخرى، فتلك التي تحتوي صدفاً بحرياً تكون أغلى من النهري، وكذلك المستورد من الفلبين أغلى مقارنة بالمحلي الديري، بالإضافة إلى كمية الفضة والعضم المستخدمة فيها.
ويعتمد الموزاييك على مختلف أنواع الأخشاب مثل الليمون والزيتون والحور وغيرها، كانت جميعها من الغوطة الشرقية التي تدمرت وقطعت أشجارها، وبالتالي أثرت على إنتاج وديمومة هذه الحرفة.
ويقوم بعض الحرفيين بتصدير منتجاتهم إلى الخارج من خلال بعض الوسطاء والتجار، إلا أن الأمر لم يعد مربحاً كما السابق بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وفقاً لما ذكره “البندقجي” لنورث برس.
ويرى الرجل الخمسيني أن على اتحاد الحرفيين في سوريا مد يد العون ودعم الحرفيين المتمسكين بالمهن التقليدية وتشجيع وتعريف الشباب بأهمية الموزاييك، قبل أن تنقرض كلياً وتتعرض للاندثار بعد أن هاجر الكثير من أرباب الخبرة والمهارة إلى الخارج.