منذ سقوط نظام عمر البشير في الحادي عشر من نيسان/ أبريل عام 2019, جرت محاولتان فاشلتان للانقلاب العسكري، ولكن عندما قام الفريق عبدالفتاح البرهان في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر2021 بانقلابه على نظام الشراكة في مجلس السيادة الحاكم مع قوى الحرية والتغيير، الذي بُني على الوثيقة الدستورية المنظمة للمرحلة الانتقالية والموقعة في السابع عشر من آب/ أغسطس 2019، فإن الانقلاب قد نجح بالمعنى التقني العسكري (اعتقال الخصوم، سيطرة على المؤسسات، والطرق والجسور…إلخ)، وهو ما لم يحصل في المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين.
وفي انقلاب الفريق “البرهان”، توفرت حاضنة سياسية تمثلت في الحركات المسلحة بدارفور، أي حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركي مناوي، وهي حركات دخلت مجلس السيادة بعد التوقيع على اتفاقية جوبا منذ خريف 2020.
وقامت هذه الحركات قبل أسبوعين من انقلاب “البرهان” بشق قوى الحرية والتغيير التي وقف طرفها الآخر أي جناح المجلس المركزي ضد الانقلاب الذي وضح بأن المؤسسة العسكرية موحدة خلفه, وأن هناك قوى إقليمية داعمة له، مثل مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل، بينما وقفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا ضده.
هنا، لم تستقر الأمور للفريق “البرهان” حيث وضح أن هناك معارضة قوية في الشارع السوداني، تقودها قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي والحزب الشيوعي.
وظهر من حجم المظاهرات ضد الانقلاب أن مفاجأة صدمة الانقلاب لم تجعل المجتمع السوداني في وضعية اللاحركة والسكون والتسليم لما حصل، كما جرى بعد انقلابات أعوام 1958 و1969 و1989, التي خرجت الحركات الجماهيرية ضدها, بعد تراكم سنوات من الإعداد.
وكانت هناك مبادرات جماهيرية بعد أيام قليلة من التظاهر ضد انقلاب “البرهان”, كان واضحاً من خلالها أنها بتأثير تخطيط تنظيمي من قوى سياسية لم تؤدِ صدمة الانقلاب إلى شل حركتها.
شكل هذا مفاجأة للانقلابيين حيث كان التخطيط، عبر الانقلاب وإجراءاته من حل مجلس السيادة ومجلس الوزراء ووقف العمل بالوثيقة الدستورية واعتقال سياسيين منهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وأعضاء في مجلس السيادة، أن ينفرد العسكر بالسلطة بالتعاون مع الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا.
وأن يأتوا بواجهات مدنية من التكنوقراط تشكل ديكوراً لنظامهم الجديد, وأن يستبعدوا القوى السياسية المدنية من عملية المشاركة في السلطة بخلاف ما جرى منذ توقيع وثيقة السابع عشر من آب/ أغسطس 2019, التي اضطر العسكر لتوقيعها بعد أن فشلوا في الانفراد بالسلطة بعد إزاحة “البشير”.
وفي هذا الإطار، كان توقيع العسكر لاتفاق سياسي مع رئيس الوزراء المعتقل عبد الله حمدوك، في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021, إذ أعادوه بموجبه إلى منصبه وباتفاق سياسي جديد يمثل تنازلاً من البرهان وإقراراً بأن حسابات الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر لم تمشِ.
لكن ذلك أيضاً كان مكسباً للبرهان من حيث إنشاء شرخ في التحالف بين “حمدوك” وقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، تحالف كان هذا الانقلاب موجهاً ضده، كما أن الاتفاق الجديد قد جعل واشنطن ولندن والاتحاد الأوروبي يبدلون موقفهم من البرهان، كما أن العسكر قد كسبوا استمرارهم في رئاسة مجلس السيادة الحاكم حتى انتهاء المرحلة الانتقالية في تموز/ يوليو 2023.
فيما كانت الوثيقة الدستورية لعام 2019 تقول إن رئاسة مجلس السيادة تنتقل للمدنيين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وعلى الأرجح أن انقلاب البرهان كان أحد أهدافه الرئيسة منع ذلك، ويبدو من خلال بنود اتفاقه مع حمدوك أنه قد نجح في هذا المسعى.
مع هذا الذي جرى في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي بالتأكيد شكل مكسباً للانقلابيين، فإن قوة مظاهرات الشارع السوداني لم تفقد زخمها، بل يبدو من مظاهرة الثلاثين من تشرين الثاني/ نوفمبر أن ذلك اليوم قد شهد أكبر التظاهرات ضد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر, ما يوحي بأن هذا الاتفاق لم يضعف المعارضة للانقلاب, وأن حمدوك ليست له امتدادات في الشارع بل كانت قوته تعتمد على قوى الحرية والتغيير وأن الأخيرة مازالت محتفظة بقوتها.
كما توحي بأن اتفاق الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر لن يعطي أوكسجيناً كافياً لنظام انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، خاصة أن حمدوك باتفاقه لم يستطع أن يكسب أياً من القوى السياسية المدنية والتي يبدو أنه والبرهان كانا يراهنان على انشقاقها، كقوى مكونة للحرية والتغيير سواء كانت أحزاب أو تجمعات نقابية ومهنية، وانزياحها نحو النظام الجديد عقب اتفاق البرهان– حمدوك.
كل ما سبق، يوحي بأن هناك مجتمع في السودان يستطيع، ليس فقط القيام بما فعله ضد نظم الانقلابات الثلاثة السابقة عبر إسقاطها من خلال ثورات جماهيرية، بل أصبح الآن يملك القدرة على منع الانقلابيين من الجلوس مستقرين على كرسي السلطة منذ الأسابيع الأولى للانقلاب العسكري.
وضع البرهان الآن ليس مثل وضع إبراهيم عبود عام 1958, أو جعفر النميري عام 1969, أو عمر البشير بعد انقلاب 1989, حيث استقر الثلاثة على الكرسي لسنوات ثم بدأ الاضطراب لسلطتهم قبل الثورات عليهم.
وخلال الأربعين يوماً من عمر انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر أظهر المجتمع السوداني أنه قد وصل, أو اقترب، إلى حافة أن يكون مالكاً لجسم مانع للانقلابات, كما أظهر المجتمع التركي ذلك أمام محاولة انقلاب الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016, فيما لم يظهر المجتمع المصري ذلك أمام انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 رغم ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011.
وفي الثالث والعشرين من شباط/ فبراير 1981 أظهر المجتمع الإسباني مناعته أمام محاولة انقلاب قام بها أنصار الديكتاتور السابق فرانكو 1939-1975، وقد أظهر الإسبان آنذاك بأن التحول الديمقراطي الذي بدأ عام 1977 لا رجعة عنه.
لم تضعف قوة السودانيين ضد الانقلاب مع تغير المواقف الدولية من رافضة إلى قابلة به, هذا يعني أن القوة الاجتماعية الداخلية تكون هي المقررة في مجتمع متماسك, وليست الرياح الدولية التي تفعل فعلها فقط في داخل مجتمع منقسم أو مأزوم أو مشتعل داخلياً.