على حين غرّة توقّفت آلة الحرب التركية عند حدود التهديد المعروفة بتنفيذ احتلالات جديدة للأراضي السورية التابعة لسلطة الإدارة الذاتية، شرقي وغربي الفرات، ذلك أن أنقرة لم تتحصّل على الضوءين الأخضرين الروسي والأمريكي، لشن هجمات جديدة؛ ففي الميزان لم يعد لدى الأتراك تلك المساحة الواسعة للبدء بصفقات أو مقايضات مع الروس، فيما لم يثمر لقاء الرئيسين التركي والأمريكي الأخير في روما عن أي أمارات أو إشارات تطلق يد أردوغان في سوريا، بل إن اللقاء عجّ بصور توحي بالرضا والتفاهم حيث الابتسامات أمام عدسات الإعلاميين، بدّدها تصريح البيت الأبيض الذي قلّص حدود اللقاء الذي دام قرابة الساعة إلى الحدّ المتوقّع وهو التأكيد على تراكب مسائل ثلاث معقّدة يساهم حلّها في إعادة شيء من المياه التركية إلى المجرى الأميركي.
وفق ما هو متوّقع جاءت أزمة التزوّد بصواريخ إس 400 الروسية في طليعة العقد التي تطالب واشنطن أنقرة بتفكيكها، فيما كانت الإشارة الثانية إلى تواجد وأدوار تركيا خارج حدودها في شرق المتوسط وسوريا وأذربيجان وليبيا وفي دلالة على افتراق في المصالح والرؤى بين الجانبين.
أمّا ثالثة الأثافي فهي بطبيعة الحال مسألة سيادة القانون وحقوق الإنسان والديمقراطية في تركيا، وهي الفقرة الأكثر إثارة لحفيظة أردوغان بخاصة وأنها جاءت على خلفية الإعلان عن طرد عشرة سفراء بينهم السفير الأميركي، ولعل الإصرار الأميركي هذا يعني في باب ما تأكيداً على المطالبة بحرية كافالا وسجناء الرأي والمعارضة في السجون التركية، وهو توكيد في مكان آخر على نهج بايدن الرامي إلى إبقاء “الديمقراطية” التركية في حدودها الدنيا وتشذيب النوازع السلطوية للرئيس التركي والكفيلة بإحداث افتراقات متتالية في سياسات البلدين.
لكن المهم لكرد سوريا هو أنّ تركيا لم تتحصّل على ضوء أخضر في روما، في الوقت الذي حدّد إعلام الحرب التركية والإعلام السوري المعارض والموازي، بنك الأهداف المقبل للحرب التركية “الوشيكة” ومدار الحرب: تل رفعت وعين عيسى وكوباني وتل تمر، غير أنّ الدروع البشرية التركية (مليشيا المعارضة السورية) سرعان ما عادت أدراجها بعد أن أعلنت عن جهوزيتها وتنكّبت أسلحتها التركية، بذا تلاشى حلم عملية ثالثة تستهدف كرد سوريا، لكن إلى حين.
وجملة ” إلى حين” هنا مطلوبة كي لا يفرط الكرد بالتفاؤل، أو أنها تُدخل في الحسبان احتمالات خوض تركيا مغامرة خارج قوس الضوء الأخضر الأميركي لاسيما وأننا في إزاء حكم فاقد للتوازن كاد أن يطرد عشرة سفراء بضربة واحدة.
في إزاء ذلك ليس هناك ضوء روسي، أقلّه في هذه الآونة، ذلك أن مساحة المقايضات ضاقت بالأتراك وإذا كان تأليب جهاديي جبهة النصرة السوريين ضد زملائهم الأجانب بخاصة الشيشان قد يشكّل عربون صداقة آخر للروس والتفافاً على استحقاقات أستانا، فإنّ إقناع موسكو بمثل هذه الخطوات لا تشكّل أرضية للمقايضات على الأراضي، فهي بحسب الروس تنفيذ لاتفاق ليس إلّا، يضاف إلى ذلك أن روسيا قد تشغل دور الوسيط بين دمشق والإدارة الذاتية وهو ما يستلزم عدم الإضرار بالأخيرة، فيما الحديث عن مباركة أميركية لجهة اضطلاع روسيا بدور الوسيط قد يقلّص من حجم المقايضات مع تركيا حتى وإن كان عنوانها التركي المغفل، الكرد مقابل كل شيء.
في محاولة تقفّي سيرة التهديدات التركية التي تعلو وتخمد فجأة، يمكن ربط المسألة بجملة حسابات، الحرب النفسية وصرف النظر عن سوء الأوضاع الاقتصادية، والأهم أنّ الحرب تدخل في حسابات الحملة الدعائية المتواصلة للانتخابات المقبلة، فالبحث عن نصر أيّاً كان حجمه يمكن لآلة الحكومة أن تضخّمه وتسدّ من خلاله فجوة التضخّم الاقتصادي وانهيار الليرة الذي يعيد إلى الأذهان مسلسل الانهيار العظيم لليرة التركية عام 1999 وكيف ساهم الحديث عن الانتصارات العسكرية والمخابراتية في تقليص حدّة غضب الشارع التركي، وهو الأمر الذي التفتت إليه المعارضة التركية مؤخّراً لتصوّت بدورها بالضد من إعادة تفويض الرئيس لبقاء القوات المسلّحة في سوريا مدّة عامين إضافيين.
ولا يعني تعثّر أنقرة في الحصول على ضوء أخضر أن تتوقّف عن مزاولة رياضة الحرب النفسية والأعمال العدائية، وبحسب المراقب أن يتابع قصف المدفعية التركية وهجمات مليشيا المعارضة شبه اليومي لمحيط تل رفعت وعين عيسى وتل تمر ليتحقّق من تحفّز تركيا المستمر، لكنّ ردود قسد على مصادر النيران يضفي شيئاً من “العدالة” على المناوشات اليومية، وهو ما لا يرضي تركيا بأي حال، بل يضفي جرحاً نرجسياً على دولة تملك في ميزان الأذى كل وسائل التدمير التي تمكّنها في إفناء بشر وتدمير مناطق أوسع من المحيط الضيّق الذي تشن هجماتها عليه.
في مجمل الأحوال تبقى نذر الحرب التركية تلوح في الأفق، غير أنّ ما يقوّضها في كل يوم يمرّ هو تعارضها مع مصالح واشنطن وموسكو، ولكن الأبقى من ذلك هو الوصول إلى تسويات سياسية داخلية من شأنها إراحة كرد سوريا وتخليصهم من أشباح الحرب النفسية التي لا تغيب عن أذهانهم لحظة واحدة، وإذا كان ما يمكن سماعه في هذه الأثناء من مسلسل الوعيد التركي هو أن لا حرب حالية فإنه ثمّة صوت موازٍ يخبرنا بأن ننتظر الحلقة التالية!