محمد سيد رصاص
في خريف عام 2005 قالت جولييت وور، مديرة العلاقات العامة بالسفارة الأميركية في بيروت، التصريح التالي: “الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، بل إلى تغيير تصرفاته (محددة تلك التصرفات على التوالي في ثلاثة أمكنة: العراق، فلسطين من حيث علاقاته بحركتي حماس والجهاد، ولبنان)” (جريدة “السفير”، 14\10\2005).
لا يمكن عزل ما جرى في 2 أيار 2003 بدمشق (زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول ومطالبه في مرحلة ما بعد احتلال العراق من السلطة السورية التي لا تختلف عن ما صرحت به جولييت وور)عن الغارة الإسرائيلية الجوية على قرية عين الصاحب بريف دمشق في يوم 5 تشرين الأول 2003 حيث تمت الإغارة على قاعدة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة)، وهي أول غارة إسرائيلية على الأراضي السورية منذ حرب 6 تشرين الأول 1973. في 11 كانون الأول 2003 وقع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن على “قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان”. في 2 أيلول 2004 صدر القرار الدولي 1559، بتوافق أميركي- فرنسي، الذي دعا إلى انسحاب “القوات الأجنبية من لبنان ونزع سلاح المليشيات اللبنانية”. في 14 شباط 2005 اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. تم سحب السفير الأميركي من دمشق في 15 شباط 2005. في 14 آذار 2005 حصلت مظاهرة هي الأكبر في تاريخ لبنان طالبت بخروج القوات السورية. في 26 نيسان 2005 حصل انسحاب القوات السورية من لبنان.
لم تعد التواصلات الديبلوماسية بين واشنطن ودمشق حتى آذار 2007. كان (تقرير لجنة بيكر- هاملتون)في الشهر الأخير من عام 2006 قد أوصى بفتح حوار مع دول جوار العراق من أجل حلحلة المأزق الأميركي في العراق، وهو بالتأكيد يعكس قراءة أميركية لتغير موازين القوى الإقليمية، لصالح معسكر طهران – دمشق – حزب الله- حركة حماس، إثر فشل إسرائيل في حرب تموز 2006. في 3 نيسان 2007 حصلت زيارة إلى دمشق لزعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي. في 4 أيار 2007حصل لقاء في شرم الشيخ بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليسا رايس ووزير الخارجية السوري وليد المعلم.
لم يكن ما جرى عام 2007 أكثر من باب موارب بين واشنطن ودمشق. بدأ الانفتاح الفعلي الغربي، من الأوروبيين أولاً وبالذات الفرنسيين ثم الأميركان وخاصة عام 2009 مع تولي باراك أوباما للرئاسة الأميركية، مع توقيع اتفاق الدوحة الخاص بلبنان في يوم 21 أيار 2008، الذي كان حصيلة لإقرار دولي- اقليمي بتوازنات لبنانية جديدة إثر عملية 7 أيار 2008 والتي كسرت عبرها توازنات ما بعد 14 آذار 2005. في نفس يوم 21 أيار 2008 تم بدء المفاوضات الإسرائيلية- السورية في تركية والتي انتهت مع حرب غزة في الأسبوع الأخير من عام 2008. حضر الرئيس السوري احتفالات باريس بالعيد الوطني الفرنسي في 14 تموز 2008 وفي 3 أيلول 2008 زار الرئيس الفرنسي ساركوزي دمشق.
كان الانفتاح الغربي، الأوروبي أولاً والأميركي، حصيلة لحدثين لبنانيين قاما بهما حزب الله، هما حرب تموز 2006 وعملية 7 أيار 2008، وما عناهما من توازنات إقليمية جديدة ومن توازنات داخلية لبنانية جديدة. كانت حرب تموز 2006 فشلاً لحرب إسرائيلية على لبنان أسمتها كوندوليسا رايس “آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد” حيث كان مشروع “الشرق الأوسط الكبير (أو الجديد)” قد طرحته واشنطن عام 2004على خلفية غزو العراق وألمح إلى مضامينه ما قاله كولن باول وزير الخارجية الأميركي قبيل غزو العراق بأربعين يوماً: “النجاح في العراق قد يعيد ترتيب هذه المنطقة جذرياً بطريقة إيجابية تخدم أكثر المصالح الأميركية”.
كان من الواضح مع دخول باراك أوباما للبيت الأبيض بأن سياسة عزل سوريا قد دفنت في واشنطن وبأن عهداً أميركياً من خطب ود سوريا سيبدأ. كانت هناك شكوك في واشنطن مع استئناف المفاوضات السورية مع إسرائيل في تركيا في 21 أيار 2008، بعد انقطاع استغرق ثماني سنوات منذ محادثات شيبردزتاون (3-6 كانون الثاني 2000)، بأن السوريين يريدون أموراً أخرى غير الاتفاق مع إسرائيل، على ضوء القراءة الأميركية للتجربة السورية للمحادثات مع الإسرائيليين منذ مؤتمر مدريد (تشرين الأول 1991) وحتى شيبردزتاون.
في تفسير تقاربات أوباما من دمشق كان هناك هذا الرأي في واشنطن: “سوريا، حسب محللين أميركيين، هي (ثمرة منخفضة العلو في الشجرة) والتي هي ناضجة لإعادة التموضع الاستراتيجي” (International Crisis Group:”Reshuffling the Cards “(1),Middle East Report N . 92,14\12\2009(35 PAGES,P.D.F),P.1)\ مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل: “إعادة خلط الأوراق”، دراسة في 14 كانون الأول 2009\، والمقصود هنا شجرة معسكر طهران- دمشق- حزب الله- حركة حماس. وبالتالي يمكن قطفها من تلك الشجرة. كان هذا الرأي مبنياً على أن ما سيجذب النظام السوري للابتعاد عن ذلك المعسكر من أجل إعادة التموضع متمثلاً في مكاسب “استعادة الجولان، وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتحسين الاقتصاد” (“ibid”,p.1.). تلك التقديرات مبنية على أن “صلات النظام السوري مع جبهة الرفض هي ورقة ذات حدين: تقويه وتعزله…تناقضات تملك منطقها الخاص، لتعكس سياسة خارجية تقاد قبل كل شيء وفق مصلحة النظام في حفظ الاستقرار الداخلي وفي تحصيل دور إقليمي، وهما أمران مرتبطان بقوة بأحدهما الآخر” (,p.2.”ibid”)، فـ”سلوك سوريا في الماضي كان يعتمد بشكل كبير على أفعال الآخرين، أي على المشهد الإقليمي والمخاطر التي يحتويها، بالقدر نفسه التي يحويها المشهد المحلي وتقييداته. هذه الصورة ستظل قائمة بالنسبة للمستقبل”(“ibid”,p.2.)، فـ”في العمق تعتمد دمشق على طهران في أوقات الضغط الدولي وكعمود فقري في لعبة توازناتها الاستراتيجية….من جانب آخر ،سوريا قدمت لإيران موطئ قدم في العالم العربي وفي الصراع العربي-الإسرائيلي” (“ibid”,p.7).
مع الهجوم على مبنى أمني في دمشق بيوم 27 أيلول 2008 من قبل جهاديين مرتبطين مع (تنظيم فتح الإسلام)، ذوي الروابط مع تنظيم (كتائب عبدالله عزام) المرتبط مع (تنظيم القاعدة)، أعلن مسؤول أمني سوري رفيع لـ(كرايزيز كروب) في تشرين الثاني 2008 بأن “الهدنة التي بدأت مع الجهاديين، عبر دعمنا لحركات المقاومة، قد انتهت. \ فمنذ أيلول تم اعتقال 800 جهادي” (“ibid”,p.21.). ربما ساعد في ذلك التحول السوري واقعة أن النار العراقية التي ساهمت دمشق بإشعالها تحت أرجل الأميركيين في بلاد الرافدين قد أقنعت واشنطن بأن “تجربة تغيير الأنظمة كانت مؤلمة جداً بحيث أضعفت شهية الأميركان على تكرار التجربة العراقية” (“ibid”,p.22.). في تشرين الأول 2009 صرح مسؤول أميركي لـ(كرايزيز كروب) بأن “سوريا فعلت الكثير فيما يخص لجم نشاط تنظيم القاعدة عند الحدود” (“Rshuffling…..”(2),16\12\2009,(35PAGES,P.D.F),P20.).
على الصعيد السياسي، كان هناك خلاف بالأصل منذ عام 2003 بين طهران ودمشق تجاه العراق، حيث تحالفت طهران والموالون العراقيون لها مع الأميركان في تأسيس عراق ما بعد صدام حسين. استمر هذا التحالف حتى آب 2005 مع استئناف الإيرانيين لبرنامج تخصيب اليورانيوم، مما ولد صداماً إيرانياً- أميركياً انعكس على عموم المنطقة. ظل التحالف السوري – الإيراني في لبنان ولم يهتز بفعل خلاف البلدين في العراق. مع انعطافة دمشق عبر اتفاق الدوحة (21 أيار 2008) عاد الدفء للعلاقات السورية- السعودية، ثم زاد التقارب مع زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز لدمشق (7 تشرين الأول 2009) وهو ما ترجم سريعاً في لبنان عبر تأليف حكومة سعد الحريري (9 تشرين الثاني). في انتخابات البرلمان العراقي (7 آذار 2010) ظهر تحالف سوري- سعودي- تركي داعماً لقائمة (العراقية) بزعامة إياد علاوي التي نالت أعلى المقاعد بالانتخابات فيما دعمت طهران قائمة (دولة القانون) بزعامة نوري المالكي. على الأرجح كان علاوي هو حصان الرهان الأميركي لعراق بعيد عن طهران في مرحلة ما بعد الانسحاب العسكري الأميركي المقرر نهاية عام 2011.
كان هناك توجس محسوب في واشنطن تجاه ما ستسلكه دمشق، فحسب رسمي أميركي قابل مجموعة (كرايزيز كروب)في تشرين الثاني 2009 فإن “بشار الأسد راغب في استعادة الجولان، ولكنه في النهاية سيفكر في الفوائد المترتبة إن كانت تستحق ثمن التخلي عن منطقة النزاع الحالية، من خلال إعادة تموضع استراتيجية تجاه تحالفات سوريا الحالية” (“Rshuffling…”(1),p.15.). في تشرين الأول 2008 عبر مسؤول سوري كبير في مقابلة مع مجموعة (كرايزيز كروب) عن حجم التردد السوري بقوله: “سوريا يمكن أن تضغط بشدة إلى ما فوق وزنها أو إلى ما تحته. إنها لا يمكن أن تكون وفق وزنها الفعلي. الكثيرون، وخصوصاً الولايات المتحدة، يريدون أن نقطع العلاقات مع إيران وحزب الله وحماس. افترض أننا فعلنا، عندئذ سنكون ضعفاء ولن نأخذ شيئاً بالمقابل” ((“ibid”,p.24..
في النهاية، وبعد سنتين ونصف من خطب ود سوريا من قبل الغرب الأميركي- الأوروبي ومن قبل حلفاء إقليميين لواشنطن مثل السعودية وتركية باتجاه الابتعاد عن معسكر طهران- حزب الله- حركة حماس، اختارت دمشق عدم فك تحالفها مع طهران، وقد اختارت بغداد، التي كانت سبباً للخلاف مع واشنطن وطهران عام 2003، مكاناً لكي تعلن استمرار تحالفها مع إيران من خلال دعم ترشيح نوري المالكي لرئاسة الوزارة العراقية بيوم 25 تشرين الثاني 2010 ومن خلال تخليها عن دعمها المشترك مع الرياض وأنقرة وواشنطن لإياد علاوي .كان هذا اختياراً سورياً وضع دمشق في تباعد مع الرياض وأنقرة، المهوستان بالتمدد الإيراني في المنطقة بدءاً من بغداد 9 نيسان 2003، حيث كانتا تريدان عبر إعادة علاوي لرئاسة الوزارة العراقية ضرب النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، ثم أرسلت دمشق رسالة ثانية لواشنطن في عدم رغبة العاصمة السورية بإعادة التموضع حيث في 12 كانون الثاني 2011 أعلن وزراء (حزب الله- حركة أمل- التيار الوطني الحر) استقالتهم من الحكومة اللبنانية أثناء اجتماع سعد الحريري مع أوباما في البيت الأبيض، وقد كانت عملية إسقاط حكومة الحريري، بدعم من طهران ودمشق، رسالة تباعد سوري ثانية، وأقوى من تلك البغدادية، عن أنقرة والرياض وباريس وعن واشنطن.
كانت تلك الحركة الإيرانية- السورية في بيروت سابقة بيومين لسقوط أول حاكم عربي بفعل موجة ما أسمي بـ”الربيع العربي”. كان سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني 2011 بفعل اضطراب الداخل التونسي الفصل الأول في اضطرابات مصر وليبيا واليمن ثم سوريا. كان وصول شرارة الاضطراب للداخل السوري في 18 آذار 2011 مرفوقاً بحطب سوري قابل للاشتعال، وبفشل عملية واشنطن- باريس- الرياض- أنقرة في إبعاد دمشق عن طهران. لهذا رأينا الذين تقاربوا مع دمشق في فترة 2008-2010، يعلنون العداء تجاه السلطة السورية تباعاً خلال خمسة أشهر من الاضطراب السوري: ساركوزي (تموز 2011)- أردوغان (آب)- الملك عبدالله بن عبدالعزيز(آب)- أوباما (18 آب 2011)، بعضهم من أجل استغلال الحريق السوري لفرض تغيير سياسات النظام، وبعضهم من أجل إسقاطه. على الأرجح أنهم لم يكونوا جميعاً ليفعلوا ذلك لو كان سلوك دمشق مختلفاً في بغداد 25 تشرين الثاني 2010 وفي بيروت 12 كانون الثاني 2011.