تلفت اللامبالاة المفرطة التي يبديها السوريون هذه الأيام تجاه النظام الحاكم الذي جلب جل المخاطر التي تواجه بلدهم اليوم والذي جعل حياتهم لا تطاق فيه، ويردون بالسعي للهجرة إلى خارجه.
لقد نجح الاستبداد إلى حد كبير في القضاء على روح المواطنة، والوطنية، لدى جماهير الشعب، منذ أن قضى على روحهم السياسية، والمواطنة لا تكون كذلك إلا بروحها السياسية.
لقد نجح الاستبداد أيضاً، في تهديم منظومة القيم الوطنية، من خلال سياسة الفساد والإفساد، التي انتهجها منذ عام 1970. يخطئ من يظن أن الفساد المنتشر في سوريا هو مجرد ظاهرة، يمكن أن يوجد مثيل لها في أي بلد، حتى في بعض الدول المتقدمة، بل هو سياسة ونهج رسميين.
وإذا كانت كل هذه الوقائع قد تم التأسيس لها وتعميمها قبل تفجر الأزمة السورية الكبرى في عام 2011، وكانت من أسبابها الرئيسة، فإنها تفاقمت خلال مجريات الصراع المسلح وهي تتفاقم اليوم بعد أن توقف. الرد الطبيعي للناس على هذه الأوضاع تمثل في الهجرة من البلد.
خلال سنوات الصراع المسلح هاجر إلى الخارج نحو ستة ملايين سوري، ونزح أكثر منهم إلى الداخل، وذلك طلباً للأمن والسلام الخاص. وبعد توقف الصراع المسلح وتحول سوريا إلى مناطق نفوذ دولية لم يتوقف النزوح والهجرة من وإلى هذه المناطق أو إلى خارجها وذلك خوفاً من المستقبل، لفقدان الأمل بأي حل سياسي يضع حدا لمعاناتهم. اللافت أن الأسباب الاقتصادية للهجرة خلال فترة الصرع المسلح لم تكن رئيسة بسبب وفرة تدفق الدولارات على مناطق سيطرة المسلحين والتي قسم كبير منها كان يصل إلى خزائن النظام. اليوم وبعد توقف الصراع المسلح مؤقتاً على الأغلب صارت الأسباب الاقتصادية هي الرئيسة في دفع الناس لمغادرة البلد والبحث عن حياة جديدة في الخارج. من المعلوم أن أسعار كثير من السلع في الأسواق السورية وخصوصاً السلع الغذائية قد ازدادت أكثر من مئة مرة عن مستواها قبل تفجر الأزمة في عام 2011، في حين لم ترتفع الأجور والرواتب أكثر من ثلاث مرات. والأخطر من ذلك هو عدم توافر كثير من مقومات الحياة الضرورية مثل الكهرباء والغاز وكثير من السلع الضرورية خصوصاً مستلزمات الإنتاج. يضاف إلى ذلك انتشار الفساد بصورة غير مسبوقة بل صار وقحا في علانيته، بحيث لا تستطيع أن تحل أي مشكلة في أجهزة الدولة ومؤسساتها إلا عبر قنوات الفساد، ودفع الرشاوي بالتالي. اليوم لا كرامة لمواطن في بلده، قول معبر وفيه الكثير من الصدق. لقد نجح النظام في جعل الناس تلتهي عنه بشؤونها الخاصة، معتمداً مبدأ “إفساد الكل للكل” بما يعنيه من جعل يد كل مواطن في جيب المواطن الآخر، ويد الحكومة في جيوب الجميع.
في مقابل التضيق المستمر على مقومات العيش والعمل والحياة في البلد لم يعد من خيار أمام كثير من السوريين غير الهجرة، وهم اليوم يزدحمون أمام دوائر الهجرة والسفر. خلال الصراع المسلح كانت عائلات بكاملها تغادر إلى الخارج إضافة إلى بعض الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال. وبعد التوقف المؤقت للقتال وحصول نوع من الاستقرار النسبي أخذت الكفاءات تغادر البلد خصوصا الأطباء. بحسب بعض المصادر يعمل اليوم في ألمانيا لوحدها نحو عشرة آلاف طبيب سوري إضافة إلى ضعف هذا العدد من طلاب الطب الذين يتابعون تحصيلهم في الجامعات الألمانية ومن المرجح أن لا يعود منهم إلى البلد إلا القليل. تستمر اليوم وبزخم لافت هجرة العقول والكفاءات السورية إضافة إلى أصحاب رؤوس الأموال، بل وعائلات بكاملها أخذت تبيع ممتلكاتها وتهاجر بلا عودة. تفيد بعض المصادر الإعلامية أنه خلال أقل من شهر غادر دمشق نحو اثنين وعشرين ألفاً، وغادر حلب تسع عشرة ألفاً، وغادر حمص أكثر من خمسة آلاف، وغادر طرطوس أكثر من خمسة آلاف، وغادر السويداء نحو أحد عشر ألفاً، وقس على ذلك بقية محافظات القطر. وكانت وجهة نحو 45% منهم إلى مصر وجلهم من التجار والصناعيين والحرفيين والشباب. وقد حفز على الهجرة ليس فقط الظروف القاسية للحياة والعمل في داخل سوريا بل وأيضاً التسهيلات التي أخذت تمنحها مؤخراً دول عديدة لدخول السوريين إليها بل وتشجيعها مثل مصر والسعودية والإمارات وبيلاروسيا وكندا واستراليا وغيرها من بلدان العالم. لقد برهن السوريون في بلاد الاغتراب نجاحهم في مجال الأعمال وفي الدراسة وفي أي مجال عملوا به. بحسب بعض المصادر من أصل العشرة الأوائل في شهادة البكلوريا في ألمانيا سبعة منهم كانوا طلاباً سوريين. وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قدم رئيس وزراء كندا مثالا على نجاح المهاجرين إلى بلده بأسرة سورية أبدعت في صناعة الشوكولاتة، بل وعين سورياً في وزارة النقل في بلاده. وفي مصر افتتح رئيسها شخصياً أكبر منشأتين صناعيتين في أفريقيا لرجال أعمال سوريين، واحدة لصناعة المنسوجات والأخرى لصناعة الأعلاف.
إن ما تخسره البلاد من عقول وكوادر صرفت على تأهيلها مليارات الليرات السورية، يصعب تعويضها مستقبلاً. ومما يؤسف له حقاً أن النظام السوري لا يكترث لذلك بل يعده مصدراً للعملة الصعبة. يصعب في مثل هذه الظروف والمعطيات تصور كيف سوف تكون عليه سوريا مستقبلاً، وكيف سوف يتم إعادة إعمارها.