تحدد المشهد الدولي ما بعد الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991 والذي أتى كنتيجة لهزيمة السوفيات أمام الأميركان في الحرب الباردة 1947-1989.
كانت أهم معالم المشهد الدولي الجديد أنه قد وجد قطب أميركي أوحد للعالم لأول مرة منذ الامبراطورية الرومانية، حيث كانت توجد ثنائيات قطبية متصارعة قبل 1991 مثل موسكو وواشنطن بالحرب الباردة أو برلين ولندن بفترة 1890-1945 أو باريس ولندن بين عامي 1756 و1815. تصرفت واشنطن في حرب كوسوفو عام 1999 وفي غزو العراق عام 2003 كقطب أوحد للعالم وعندما تصادم الأميركان مع الإيرانيين نتيجة استئناف طهران لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم منذ آب\أغسطس 2005 فإن قرارات مجلس الأمن التي اتخذت بفترة 2006-2010 ضد إيران لم تلاقِ فيها واشنطن عقبات من أحد في نيويورك.
بدأت تغييرات المشهد الدولي في آب\أغسطس 2008 مع الاستيقاظ الروسي الذي أعلن عن نفسه في الحرب ضد جيورجيا، والذي كان نقطة البدء لتحرك موسكو نحو محاولة السيطرة على الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهو ما أتبع عام 2010 بوصول رئيس أوكراني جديد للسلطة في كييف موال للكرملين (تم إسقاطه عام 2014 بمظاهرات شعبية وهو ما أدى لنشوء الأزمة الأوكرانية بين واشنطن وموسكو). ترافق الاستيقاظ الروسي مع بدء الأزمة المالية- الاقتصادية العالمية التي بدأت معالمها الأولى من نيويورك في أيلول\سبتمبر 2008 ومع فشل التجربتين الأميركيتين في العراق وأفغانستان، حيث ترجم هذا بعد الانسحاب الأميركي العسكري من بلاد الرافدين أواخر 2011 بتحول طهران إلى القوة الأولى المهيمنة في بغداد وهو ما سبقه تمددات إقليمية لإيران عبر حلفائها الإقليميين في غزة عندما سيطرت حركة حماس على القطاع في 15حزيران\يونيو 2007 وفي لبنان عندما أمسك حزب الله بمفاصل القرار بعد 7 أيار\مايو 2008 ثم أتبعت تلك التمددات الإيرانية الثلاث بتمدد رابع في صنعاء لما سيطر الحوثيون على العاصمة اليمنية في 20 سبتمبر 2014، وقد جعلت تلك التمددات الأربع من إيران القوة الاقليمية العظمى في الشرق الأوسط ، الأمر الذي فرض إيقاعه على المنطقة سواء أثناء اتفاق واشنطن مع طهران على البرنامج النووي عام 2015 أو أثناء اتجاه إدارة ترامب عام 2018 للانسحاب من ذلك الاتفاق والدخول في مجابهة مكشوفة مع الإيرانيين، وهو ما تراجعت عنه إدارة بايدن.
ترافقت تلك التغييرات لغير صالح واشنطن في “الحديقة السوفياتية السابقة” وفي التمدد الإقليمي الإيراني مع تحول الصين عام 2010 إلى الاقتصاد الثاني من حيث القوة في العالم . عبر الأزمة السورية استغلت روسيا والصين مجلس الأمن الدولي في يوم 4 تشرين أول\أكتوبر 2011 لكي تعلنا عبر فيتو مزدوج ضد مشروع قرار أيدته واشنطن بخصوص سوريا عن محاولة ثنائية منهما لبدء منازعة القطب الأوحد للعالم، كما أن روسيا (ومن ورائها الصين) ومعها إيران قد دخلتا في فترة 2011-2013 في صراع ضد واشنطن بالساحة السورية لمنع الأميركان من إسقاط السلطة السورية في وقت كانت فيه واشنطن متحالفة مع (الإخوان المسلمون) الذين وصلوا للسلطة في تونس والقاهرة بغطاء أميركي، وكان تقدير الصينيين والروس بأن الإسلاميين إن اكتملت سيطرتهم بمعونة الأميركان على العواصم الرئيسية بالمنطقة فإن هذا سيؤثر على مسلمي روسيا والصين والجمهوريات السوفياتية السابقة في آسية الوسطى، وكان دافع طهران للانخراط في الأزمة السورية أن سقوط السلطة السورية سيزعزع النفوذ الإيراني في العراق ولبنان. هذا التحرك الثلاثي الروسي- الصيني- الإيراني أفشل المشروع الأميركي بالمنطقة (وبالتحالف بين واشنطن وانقرة) لتنصيب الإسلاميين في السلطة وخاصة في سوريا، وأجبر الأميركان على خطوات تراجعية منها التشارك منذ صيف 2013 مع موسكو في حل الأزمة السورية ثم إعطاء الأميركان عام 2015 الضوء الأخضر للروس للدخول العسكري إلى سوريا، وهي حركة أميركية كانت تهدف لإعطاء الروس مكافآت في الشرق الأوسط من أجل إبعادهم عن التحالف مع الصين، كما لجأ الأميركان إلى غض النظر عن تمددات إيران في الإقليم عبر اتفاق 2015 لإبعادهم عن الروس والصينيين ولتمهيد الطريق لعودة طهران التدريجية للحضن الأميركي كما كانت في عهد الشاه . لم تنفع الأميركان هذه التكتيكات ولم تنجح، لذلك لجأت واشنطن منذ أواخر عام 2016 للتواجد العسكري في شرق الفرات السوري للضغط على الروس والإيرانيين وأيضاً على الأتراك الذين بدأوا منذ قمة 9 آب\ اغسطس 2016 بين بوتين وأردوغان في نسج حلف متين مع الروس تدل قمة سوتشي في أواخر أيلول\ سبتمبر 2021 بين أردوغان وبوتين على أنه يتجه أكثر نحو التعزز وهو ما يدفع الأميركان لأن لا يكرروا في شرق الفرات السوري ما فعلوه في أفغانستان على الأقل في المديين القصير والمتوسط .
مع كل هذا، تظل واشنطن مدركة أين التناقض الرئيسي ضدها كقطب أوحد للعالم، وهي منذ إدارة أوباما تنزاح عن الشرق الأوسط نحو الشرق الأقصى لمجابهة الصين التي يراها الأميركان التهديد الرئيسي لهم، وتدل اتفاقية (أوكوس) الأخيرة بين الولايات المتحدة وبريطانية وأسترالية ليس فقط على ذلك، وإنما أيضاً، ومن خلال طريقة التعامل مع الفرنسيين في قضية الغواصات الأسترالية، بأن الأميركان لم يعودوا يرون أهمية كالسابق لأوروبا ولحلف الناتو، بل يتجهون لتشكيل حلف ناتو آسيوي ضد الصين يضم إلى ثلاثي (أوكوس) كلاً من اليابان والهند وربما أيضاً كوريا الجنوبية وفييتنام. الصين أخذت مكان الاتحاد السوفياتي في القرن الواحد والعشرين بحرب باردة جديدة مع الولايات المتحدة،وهي تمثل التحدي الوحيد الحقيقي للقطب الواحد الأميركي، بينما روسيا، باقتصادها الضعيف ورغم امتلاكها للسلاح النووي، تظل لا تمثل هذا التهديد أو التحدي، ولكن إن تحالفت الصين وروسيا، ومعهما إيران وتركية وربما باكستان، وهذا محتمل الحدوث، فإن القطب الواحد الأميركي سينتهي وستتحول العلاقات الدولية إلى مشهد جديد غير مشهد الأحادية القطبية.