المسؤولية المشتركة عن تراجع الإعلام العربي

فيما أعلنت صحيفة الـ (نيويورك تاميز) تجاوز عدد متابعهيها حاجز الثمانية ملايين قارئ بنسختيها الإلكترونية والورقية، تتهاوى الصحف العربية، حيث بتنا نشهد بشكل متسارع الإعلان عن إقفال صحف كانت تعتبر رائدة في مجال الصحافة مثل (الحياة اللندنية) و(المستقبل اللبنانية) و(دار الصياد بصحفها المتعددة) إضافة إلى عدد من المجلات والصحف التي كانت تشكل في يوم من الأيام مصدر معرفة للكثيرين وكانت معروفة بقدرتها على تأسيس الرأي العام وتغييره لما كان لها من تأثير على القراء.

وكذلك أعلنت صحيفة (الغارديان) البريطانية بلوغ عدد متابعيها أربعة ملايين قارئ، يتراجع الاهتمام العربي بالصحف العربية وحتى بالمواقع الإخبارية الإلكترونية، الأمر الذي يطرح سؤالاً يبدو ملحاً ومفاده: لماذا تتقدم الصحف في الغرب ويزداد عدد القراء فيما يتراجع المتابعون والقراء في الإعلام العربي؟

إن الإجابة على هذا السؤال ليس بالأمر السهل نظراً لتداخل المسؤوليات بين الصحف بشقيها الإلكتروني والورقي وبين القراء أنفسهم، فعلى صعيد تحمل الصحف مسؤوليتها في هذا التراجع يمكن ذكر عدد من الأسباب يأتي في مقدمتها تأثير المال السياسي على توجهات تلك الصحف والمواقع والذي يفرض رؤاه وتوجهاته فرضاً على المواقع والصحف.

 وثاني الأسباب الذاتية يتعلق بالأقلام التي تكتب في تلك الصحف والمواقع، فهم في معظمهم من غير الأكاديميين، خاصة بعد مجيء الربيع العربي الذي حول عدداً من الأشخاص غير المؤهلين ليكونوا مراسلين، بل إن الكثير من المواقع تفضل اللجوء إلى المعتقلين السابقين باعتبارهم محللين سياسيين وقادرين على كتابة الزاوية والتحليل السياسي ومقالات الرأي، وكأن دخولهم إلى المعتقل يمنحهم شهادة في الإعلام والقدرة على صياغة الزاوية أو المقال التحليلي، ونحن هنا لا نقول بإبعادهم عن الكتابة ولكنا لسنا مع تصدرهم للكتابة المتخصصة والتي لا يجب أن تكون إلا للأكاديميين والمتمرسين في هذا النوع من الكتابة الإعلامية.

ثالث الأسباب التي تتحمل وسائل الإعلام ذاتها وزر انهياره وتراجعه وهو مرتبط نوعاً ما بالسبب السابق، وهو التحايل على الحقائق، وفي كثير من الأحيان تقدم تلك المواقع والصحف على خدمة سياسة مموليها، فتقدم نوعاً من الكذب الذي يتم كشفه فيما بعد مما يفقدها ثقة القارئ ويبعد عنها المتابعين.

إن الانبطاح إزاء الممول يجعل بعض وسائل الإعلام، وخاصة المواقع الإلكترونية والصحف الورقية، تبدو بصورة هزيلة تتركز حول موضوع واحد، يريد الممول التأسيس لرأي عام حوله، فمحطتا العربية والحدث على سبيل المثال تحولتا ودون وعي إعلامي ودون إدراك إلى بوقين ينفخان دعماً للحوثيين في حين يريد القائمون عليهما خلق رأي عام معاد للحوثيين، لكن الضعف الإعلامي وغياب التخطيط العلمي والمنهجي حوّل هاتين المحطتين إلى وسيلتين تبرزان قدرات الحوثيين وقوتهما وقدرتهما على إيذاء المملكة العربية السعودية.

 ومن هنا نهيب بالقائمين على هاتين المحطتين الانتباه إلى هذه السياسة الخاطئة وتصحيحها حرصاً على استمراريتهما كمنبرين إعلاميين نحتاجهما في هذ الظروف الحرجة.

وكذلك الأمر مع المحطة الهامة الأخرى ونقصد بها الجزيرة، فلولا بعض البرامج الهامة لفقدت الكثير من متابعيها وربما يركز متابعوها على برنامج محدد هو برنامج (الاتجاه المعاكس) الذي يقدمه الدكتور فيصل القاسم والذي يبدو واضحاً أنه يبتعد منفرداً عن سياسة المحطة التي تركز في باقي رسائلها على طالبان ونجاحاتها ومحاولة تمريرها كحكومة مقبولة وتسوغ كل سلوكيات طالبان وتبرر أخطاءها.

ولقد كانت (الجزيرة) فيما مضى صدمة إعلامية إيجابية أسهمت بشكل كبير في تكوين وعي سياسي جديد ولعبت دوراً في دعم ثورات الربيع العربي، وكل ما نتمناه أن تعود إلى مكانتها تلك والتخلي عن التوجه الإسلامي الواضح الذي بات مكروراً وممجوجاً وثقيل الظل على المتابعين.

لن ندخل في تفصيل المحطات والمواقع الإلكترونية وسنتابع الحديث بشكل عام وننتقل لذكر بعض الأسباب الموضوعية التي يتحمل القارئ ذاته مسؤولية تراجع الإعلام العربي، فلقد أعلنت الغارديان البريطانية أنها تلقت نحو مليوني جنيه إسترليني من قرائها كدعم مالي لتستمر في الصدور، وهذا يعني أن القارئ يقدم ولاءه لصحيفة تعتبر من أشهر الصحف الأوربية ويريد لها الاستمرار بسبب ما تقدمه من معرفة للجميع.

وهنا نسأل: لماذا يولي القارئ العربي ولاء لصحفه ووسائل إعلامه؟ أعتقد أن الجواب واضح للجميع وهو لا يحتاج إلى شرح لذلك نقول بأن تراجع الإعلام العربي يحمل مسؤوليات مشتركة بين المتابع والمؤسسة الإعلامية ذاتها.

نضيف سبباً موضوعيا آخر وهو تراجع الرغبة في القراءة عند المواطن العربي، سواء للإعلام أو حتى الكتب والدراسات وعودة انتشار الأمية بشكل كبير والتي بلغت أرقاماً مخيفة فعلاً وصلت إلى ما نسبته خمسين بالمائة من سكان إحدى الدول العربية الهامة.

للحصول على الولاء للمؤسسة الإعلامية من قبل القارئ لا بد من وضع سياسات إعلامية جديدة تضع في الاعتبار اختياراً منطقياً وعلمياً للأقلام التي تكتب وبالتالي امتلاك القدرة على اختيار الموضوعات التي تهم القارئ وتدفعه للقراءة، ومن ثم الصدق في تقديم المعلومة والابتعاد قدر الإمكان عن التذاكي على المتابعين واختيار طريق التحايل والكذب أو إخفاء الحقائق لأغراض تخدم الممولين وسياساتهم.