القامشلي ـ نورث برس
لماذا الفرات؟ هل تؤثر درجات الحرارة في انخفاض إمدادات المياه، وتجعل هطول الأمطار غير منتظم؟ وكيف يؤدي النمو السكاني والتنمية الاقتصادية إلى زيادة الطلب على المياه؟ وكيف يؤدي بناء الأحواض الضخمة والسدود إلى شح المياه والتوتر بين الدول، واندلاع الحروب في بعض الأحيان؟ وأخيراً، ما الفرق بين أن يكون الفرات طرفاً في السياسة أو جزءاً من الشعر؟.
لا شك أن بعض الإجابات تدخل في نطاق قوانين الطبيعة، ولكن أكثرها يكون سببها المباشر هم البشر. فقد أشارت الكثير من التقارير الأممية إلى أن تأثير البشر الضار على التغير المناخي “حقيقة لا تقبل الجدال”.
وهذه “الحقيقة” التي لا تقبل النقاش يكمن فيها جواب واحد لكل الأسئلة السابقة: “البشر هم أصل مشكلة المياه، ومنهم الأتراك على وجه الخصوص. ولكن، كيف!؟”.
“نحن نملك المياه”
تلك هي السياسة الانتهازية المطبقة من قبل تركيا على دول الجوار, وحقها في استخدام المياه. سياسة تُجبر الدول المعنية على إطاعتها وإلا فإن المياه هي الثمن. فلا أهمية لشرائع الإنسان أو لحّق الجار التي ربما لا تخص أحداً غير الضعفاء. هذا بنظر تركيا، بحسب أحد المطلعين.
والحال، فإن الدول التي لها حق في مياه الفرات ودجلة، والتي تعاني من حروب أطاحت بها, وبحقوقها، ومن أزمات داخلية خلخلت من بنيتها الاجتماعية، تكاد تفقد السيطرة على حقها فيها، وتكاد تُفرض عليها تلك السياسة، وفوق هذا، ترفع تركيا ورقة المياه في وجه السوري والعراقي، كلما كانت لتركيا مطالب، فتفرضها بالقوة، غير عابئة بمصير الملايين من الناس. بحسب مصادر مطلعة.
ومبدأ “نحن نملك المياه” تؤدي تركيا إلى جحود بقيم الإنسانية. وحتى لا تتعرض للمسائلات والشكوك، قامت ببناء سدود بحجة تأمين المياه وتوليد الكهرباء لها.
ولكن، وتشير التقارير الأممية إلى المستويات غير المسبوقة لبناء السدود واستخراج المياه من قبل الدول الواقعة على الأنهار الكبرى تجعل دول المصب أكثر عطشًا بشكل متزايد، وهو ما يزيد من مخاطر نشوب الصراعات.
وأسوأ مثال على ذلك هو انخفاض إمدادات المياه وتغير المناخ أكثر من نهري الفرات ودجلة، الذي يضم تركيا وسوريا والعراق وغرب إيران.
ووفقًا للتقارير، وصور الأقمار الصناعية، تفقد المنطقة المياه الجوفية بشكل أسرع من أي مكان آخر في العالم تقريبًا. وبينما تتخذ بعض الدول محاولات يائسة لتأمين إمدادات المياه، فإن أفعالها تؤثر على جيرانها.
وخلال السنوات القليلة السابقة، ومع ارتفاع درجات الحرارة في المدن السورية، خاصة تلك المدن التي تقع في شمال شرقي سوريا (دير الزور، والرقة، والحسكة، والقامشلي.. وغيرها) قامت تركيا بقطع المياه بحجة أنها ستبدأ في ملء سدودها الواقعة في جنوب غربي منها، عند منابع نهر دجلة، كسد أتاتورك وإليسو.
وسد إليسو يعد الأحدث ضمن مشروع طويل الأمد من قبل تركيا لبناء 22 سداً ومحطة لتوليد الكهرباء على طول نهري دجلة والفرات، وهو ما سيؤثر بشكل كبير على تدفق المياه إلى سوريا والعراق وإيران، وفقًا لتقرير صادر عن المكتب الدولي الفرنسي للمياه، وغيره من التقارير الأممية.
وتزعم التقارير أن مشروع جنوب شرقي الأناضول التركي سيشمل عند اكتماله ما يصل إلى 90 سداً و60 محطة لتوليد الطاقة. وهذا يعني استفحال مشكلة المياه خاصة في سوريا والعراق. وقد حدثت هذه المشكلة بالفعل.
وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة القائمة بين تركيا من جهة والدول المعنية من جهة أخرى باتت أخطر من أي وقت مضى، خاصة في ظل النزعة التوسعية لتركيا، ووقوع سوريا والعراق في جحيم حروبها الداخلية والتدخلات الخارجية.
ومن بين الضحايا المباشرين هم السكان، وحاجتهم الماسة للمياه. ولكن، لم تكن مفاجئةً سياسات تركيا المائية. فعدا رغبتها التوسعية، وبدلاً من أن تلقى الاستنكار والرفض في غالبية دول العالم، فهي تلقى أيضاً القبول من بعض الدول القوية.
والحال، يشير إلى أن “الديمقراطية الفعالة.. هي أننا لا نملك العالم بل نتقاسمه معاً”. وهذه الرؤية الأشد وضوحاً لسياسة تركيا المائية ولمن يقف معها، بحسب المصدر.
“بموازاة ذلك، يعلم العالم جميعاً مصير الدول التي ستفقد مصادر مياهها. وفي تلك الحالة سيكون هناك المزيد من التوترات وغياب الاستقرار، وستتحول المنطقة إلى معاناة كبيرة خاصة بالنسبة لسكان سوريا والعراق، الذين عانوا بما فيه الكفاية. ومن سخريات القدر أن يعاني السكان من نقص في المياه وثمة نهران يعبران أراضيهم. ولكن، ليس بالغريب طالما أن الذئب الرمادي يسد منابع النهرين، على مرأى العالم”.
كلمات في الفرات
ينبع نهر الفرات من جبال تركيا الجنوبية، ويمر بنصيبين في الأراضي السورية قاطعاً بعض المدن والقرى فيها مثل الرقة ودير الزور والبوكمال، حتى يلتقي نهر دجلة في جنوب العراق، ليكوِّن معه شط العرب.
ولجماله وروعته، فتح الفرات قريحة الشعراء، فكان لهم فيه أشعار. ومن أبرز الشعراء في الفترة الحديثة، والذين أجادوا في وصف الفرات هو الشاعر معروف الرصافي، الذي قال في قصيدته المسماة “سوء المنقلب”، يقول:
لا دجلةٌ يا للرزية دجلةٌ بعد الرشيد ولا الفرات فرات كان الفرات يمدُّ دجلةَ ماؤه بجداولٍ تُسقى بها الجنَّات إذ بين دجلة والفرات مصانع تفتر عن شنبٍ بها السنوات
وأيضاً، الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي قال في قصيدته “يا فراتي” عام 1924:
ذاك نهر الفرات فأحب القصيدا من جلال الخلود معنى فريدا ذاك نهر الفرات ما إن له ند على الأرض إن طلبت نديدا باسماً للحياة عن سلسبيل كلما ذقته طلبت المزيدا جرعة منه في قرارة كأس تترك المرء في الحياة سعيدا جرعة منه في قرارة كأس تترك المرء في الحياة سعيدا نحن قتلاه في الهوى وقديماً شف آباءنا وأصبى الجدودا
ولعل ثمة تفاوت بين أن يكون الفرات ورقة تستخدم لأغراض سياسية وبين أن يكون جمالاً يُستخدم في اللغة الشعرية. هذا التفاوت بين السياسة والجمال، يبدو واضحاً وشديد الحضور في حاجة الناس إلى الماء، وإلى حياة الفرات. الفرات الذي صارت قصته مؤرقة، وحزينة، ودائماً مُهددة.