الاستثناء التونسي

في يوم 22أيلول\سبتمبر 2021 أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد قرارات جديدة قرر فيها “إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين.. وأبقى تجميد أعمال البرلمان واختصاصاته وأعطى نفسه صلاحيات اصدار تشريعات بمراسيم رئاسية.. وأبطل العمل بمواد الدستور التي تتعارض مع القرارات المذكورة.. وأبقى تلك المواد التي تتوافق معها..”، في خطوة هي استكمال لقراراته التي أصدرها في 25 تموز\يوليو 2021 بتجميد أعمال البرلمان واختصاصاته لشهر (تم تجديد القرار في الشهر اللاحق) والتي قام فيها بحل الحكومة وبتولي منصب النائب العام القضائي. منذ شهرين كان واضحاً أن قرارات الرئيس التونسي، التي دعمها الجيش وقوى الأمن وقوى خارجية مثل فرنسة والامارات مع غموض في الموقف الأميركي، هي موجهة أساساً ضد هيمنة “حركة النهضة”، ذات التوجه الإسلامي، التي كانت القوة السياسية الرئيسية في مرحلة ما بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني\يناير 2011 ولو أنها تخلت عن منصب رئيس الوزراء منذ بداية عام 2014. وهذا على الأرجح ما جعل موقف قوى سياسية يسارية مثل “التيار الديمقراطي” (له 22 نائباً في البرلمان من أصل 217 بعد انتخابات 2019) و”الجبهة الشعبية” (نائب واحد) تهاجم إجراءات الرئيس و”حركة النهضة” معاً وتعتبر إجراءات سعيد صراعاً “داخل المنظومة الواحدة”، ومحملة حركة النهضة مسؤولية تدهور الأوضاع التي سمحت بقرارات 25 يوليو، في موقف يبحث عن خط ثالث ما بين خطي الرئيس قيس سعيد ورئيس “حركة النهضة” راشد الغنوشي، كما أن من أيد قرارات الرئيس من القوى السياسية، مثل “الحزب الدستوري الحر” (له 17نائباً) وهو متابعة لحزب بن علي و”حركة الشعب”، ذات التوجه القومي العروبي ولها خمسة عشر نائباً وكان رئيسها محمد البراهمي قد اغتيل عام 2013 واتهم الإسلاميون باغتياله، قد أيدتا القرارات بدلالة عدائهما للإسلاميين وأن “25 يوليو 2021 هو نهاية حركة النهضة”. كان ملفتاً، في هذا الصدد، أن الحزب الذي يمزج بين الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي والليبرالية، وهو “حزب قلب تونس” وله ثمانية وثلاثون نائباً في البرلمان، قد وقف ضد إجراءات الرئيس من اليوم الأول ولو صدرت تصريحات فردية متناقضة مع الموقف الرسمي من بعض قياداته.

ولكن كان يوم 22 سبتمبر مختلفاً عن يوم 25 يوليو عند القوى السياسية التونسية التي كان موقفها غائماً أو متردداً أو أرادت فتح النار على جبهتين، حيث بعد هذا اليوم السبتمبري تم تشكيل “الجبهة الديمقراطية” من أربعة أحزاب، وهي “التيار الديمقراطي” و”تكتل ائتلاف الكرامة” (21نائباً) و”الحزب الجمهوري” (3نواب) و”آفاق تونس” (نائبان)، وقد دعت الجبهة في بيانها إلى عزل الرئيس لأنه “حنث باليمين الدستوري.. وخرج عن القانون.. وأصبح فاقداً للشرعية”، كما أن “حزب قلب تونس” قد اعتبر إجراءات وقرارات الرئيس “تأسيساً لديكتاتورية وانقلاباً على الشرعية”، وكان لافتاً ما صرح به زعيم “الجبهة الشعبية” حمة الهمامي، وهو ذو توجه ماركسي، أن “قيس سعيد سليل الحكم البورقيبي ونظام بن علي.. وأن ما يحدث اليوم يؤسس لإمكانية وضع نظام عسكري في السلطة”. وقد انضم “الاتحاد العام للشغل”، الذي هو منظمة تمثل العمال والمستخدمين، إلى وصف ما حدث في 22 سبتمبر 2021 بأنه اتجاه عند الرئيس “نحو الحكم الفردي المطلق”. وهنا إذا حسبنا المعارضين لإجراءات الرئيس التونسي، مع “حركة النهضة” ولها اثنان وخمسون نائباً في البرلمان، فإن أعضاء البرلمان المعارضون لإجراءات وقرارات قيس سعيد يبلغون 139 نائباً من مجموع مقاعد البرلمان 217.

أمام هذه المعارضة للقوى السياسية التونسية، بأطيافها الليبرالية والماركسية والعروبية حيث يوجد عروبيون في “التيار الديمقراطي” وهو أيضاً ذو توجه اشتراكي ديموقراطي، لإجراءات وقرارات الرئيس التونسي، يمكن الحديث عن ظاهرة جديدة اسمها الاستثناء التونسي، حيث لأول مرة في العالم العربي، وأثناء الصراع بين العسكر (الذي واجهتهم قيس سعيد) والإسلاميين، لم تنجر القوى السياسية التونسية الرئيسية، وكلها مخاصمة للإسلاميين، إلى وضع بيضها في سلة العسكر، كما حصل في الجزائر مع انقلاب الجنرال خالد نزار في 11 يناير 1992 الذي أوقف المسار الانتخابي البرلماني الذي كان يتجه نحو فوز الإسلاميين حيث وقف معه الحزب الشيوعي بقيادة الهاشمي شريف و”التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” بقيادة سعيد سعدي وهو يستند لقاعدة اجتماعية أمازيغية، وكما حصل في مصر في 3 يوليو 2013 مع انقلاب الفريق عبدالفتاح السيسي على حكم الإسلاميين حيث وقف معه ليبراليون مثل الدكتور محمد البرادعي وناصريون مثل محمد حسنين هيكل وشيوعيون مثل رفعت السعيد.

هذا الاستثناء التونسي يمثل وعياً سياسياً متقدماً على الجزائريين والمصريين، وهو يعي الظاهرة البونابرتية التي هي حركة ثورة مضادة تأتي بعد فشل ثورة في إقامة نظام جديد مستقر، مما يولد سخطاً شعبياً على القوى السياسية المتصارعة يستغله فرد لفرض ديكتاتورية جديدة هو ومن يدعمه، وقد كان كارل ماركس في كتابه: “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” أول من تكلم عن هذه الظاهرة في دراسته عن انقلاب لويس بونابرت في 2 كانون أول\ديسمبر 1851، وهو كان مثل قيس سعيد رئيساً منتخباً ومدنياً ولا يملك موهبة سياسية ولكن يقف من ورائه العسكر وقوى الأمن وإطارات الإدارة الحكومية، عندما حل البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) وبدأ يحكم بمراسيم ويطلب الشرعية عبر استفتاءات حيث لاقى في البداية تأييداً شعبياً كبيراً قبل أن يقود فرنسا إلى كوارث كان آخرها كارثة معركة سيدان عام 1870 عندما هزم الفرنسيون أمام البروسيين وضاع من أيديهم إقليمي الألزاس واللورين وتشكلت دولة كبيرة جارة هي ألمانية الموحدة على إثر تلك الهزيمة قامت بتجريع الفرنسيين آلاماً مبرحة في حربين عالميتين بالقرن العشرين. هذه الظاهرة البونابرتية يمكن أن نجد حالات كامنة لها عند اللواء خليفة حفتر، الذي يتأهب الآن لإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية الليبية أواخر العام، وعند الفريق عبدالفتاح البرهان في السودان الذي يحاول الآن استغلال المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة من أجل عدم تسليم رئاسة مجلس السيادة السوداني الحاكم لمدني في نوفمبر 2021 كما ينص اتفاق التناوب على رئاسة المجلس بين العسكر والمدنيين في مرحلة الانتقال السياسي لما بعد نظام عمر البشير.