هل تحكم طالبان بما أنزل الله؟

أعلنت طالبان أنها ماضية إلى تطبيق الشريعة، و”أننا وصلنا إلى الموعد الصحيح ليسعد الشعب الأفغاني بالإسلام في عدالته وأحكامه”.

وكان أول تطبيق للشريعة كما فهموه هو إغلاق مؤسسات المرأة الحكومية ومنعها من أي مشاركة جدية في الحياة وإغلاق كثير من مدارس النساء وفرض نظم لباس صارمة على النساء تحول دون مشاركتهن في الحياة، وتلغي قيم التسامح والرحمة التي قررها الإسلام في مقاصده ومبادئه.

ومن المؤسف أن هذه التحولات وأدت الآمال التي فرح بها الناس حين أعلنت طالبان مؤخراً سياسة جيدة من التسامح ضد المعارضة بما فيها المعارضة المسلحة، وكان ذلك مبشراً بوعي جديد ومختلف لدى طالبان، ولكن “يا فرحة ماتمتش!!”.

وتلا ذلك إعلان واضح أن تطبيق الحدود الإسلامية من رجم وقطع وصلب وقطع من خلاف هو هدف هذه الجماعة وأنها لن يغمض لها جفن حتى تطبق ما أنزل الله في كتابه، وهنا أحب أن أتوقف في مراجعة شرعية للنصوص المؤسسة للقانون العقابي في الإسلام.

لقد وردت آية الحاكمية في وضوح لا جدل فيه ثلاث مرات: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وهي آيات تتالت في سورة المائدة، وهي صريحة في وجوب الاحتكام إلى ما أنزله الله.

فهل هذه الآية تلزمنا تطبيق الفقه القديم في العقاب من قطع ورجم وصلب؟

من المدهش أن الآية التي يستدلون بها على وجوب تطبيق الفقه القديم قد وردت بوضوح لا لبس فيه عن وجوب تطبيق التوراة والإنجيل، وأول الآية: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذي أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وآخر الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وفي الآية التالية جاء النص: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.

إن الآيات واردة في سياق الحديث عن اليهود ومع النصارى، بشكل لا جدال فيه، جرب أن تقرأ الآيات الثلاثة في سورة المائدة ولن يبقى لديك أدنى شك في أنها رواية عن الأمم الأولى، وهي تأمرهم بتطبيق التوراة والإنجيل، وأن السلفية الذين هم أشد الناس تطبيقاً لظاهر النص يرفضون ذلك بشدة ويمارسون فيها التأويل كغيرهم ويسقطون نصف الآية الأول ويعملون بنصفها الثاني بعد تغيير المفعول به في الآيات الثلاث وتحويله من ظاهر التوراة إلى ظاهر القرآن.

ودون أدنى شك فإنني لا أفهم من الآيات تطبيق ظاهر النص لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، بل تطبيق مقاصده وغاياته في العدالة والحرية والمساواة، ولا ينكر تغيير الأحكام بتغيير الأزمان.

وفي ضياء البحث عن مقاصد القرآن فقد تجاوز الفقهاء المسلمون الفقه القديم الذي كتب في العصور الوسطى بأسلوب يتسق مع نظم العقاب السائدة، وتحولوا عموماً إلى تطوير أداة الحد وتخلوا عن الرجم وقطع اليد وصلب المحارب وأنتجوا فقهاً مقاصدياً جديداً يأذن بروح الأحكام ويطور أدواتها، وبات أمامنا فقه قديم وهو ما طبقه الناس قبل ألف عام، وفقه جديد وهو ما تطبقه الدول الإسلامية اليوم وكلاهما ينتمي إلى النص الديني نفسه ولكن بتأويل مختلف.

وهكذا فإن فقهاء المسلمين الكبار الذين انتدبهم ولي الأمر في كل الدول الإسلامية على هيئة لجان حقوقية وتشريعية متخصصة ذهبوا جميعاً إلى وقف تطبيق الحدود بالآلة القديمة وأمروا بآلات جديدة تستفيد من نظم العقاب الحديثة وما توفره الحياة الإصلاحية في السجن من إصلاح وتربية وكف شر المجرم عن الناس، وبذلك فقد قام الفقه الجديد في العقاب في الدول الإسلامية ملتزماً بتحريم ما حرمه الله من القتل والسرقة والزنا دون أن يستمر في تطبيق الأداة القديمة، تماماً كما تخلى الفقهاء عن آلة الأذان برفع الصوت وتحولوا إلى الميكرفون وتخلوا عن آلة الوصول إلى الحج رجالاً وعلى كل ضامر وعلى النوق والإبل بالسيارات إلى الطائرات والسيارات الحديثة، تماماً فقد أنجز الفقه الجديد تطويراً في الوسائل مع المحافظة على تحريم ما حرمه الله من الجرائم والفواحش والزيادة عليها ما ظهر من فنون الجريمة مما لم يذكر في القرآن الكريم.

وحتى أكون دقيقاً فأنا أقصد بالفقهاء قضاة الأمة وعلماءها بالقانون الشرعي والدولي والدستوري، وليس رجال الدين، وحتى أكون أكثر دقة فإن رجل الدين الخطيب والمفتي والواعظ هو المسؤول فيما يتصل بالصلاة والصوم والحج، أما أمور دنياكم فإن القاضي والحقوقي وعالم القانون هو الفقيه المتخصص في ذلك ولا يشترط أن يكون إماماً ولا خطيباً ولا واعظاً.

وبالفعل فقد باتت اليوم 53 دولة إسلامية من أصل 57 دولة تطبق في العقوبات نظاماً متطوراً جيداً يلتزم الإصلاح والتأهيل وليس الانتقام والثأر، وتوقفت بذلك أحكام الحدود لدى أكثر من مليار مسلم، فيما بقيت تحديداً إيران والسعودية واليمن والصومال وموريتانيا تنص قوانينها على تطبيق الفقه القديم، ومع ذلك فإن القضاة مارسوا هامشاً واسعاً للتحول من العقاب الجسدي إلى العقاب الإصلاحي.

وفي إطار هذه الإصلاحات لم يسجل في العالم الإسلامي كله تطبيق أي قطع يد منذ تسع سنوات إلا في إيران، وتوقف القطع تقريباً في الدول التي لا تزال تطبق الشريعة وهي السعودية واليمن والصومال وموريتانيا والسودان.

ولعل من أوضح الأدلة أن عدداً من الدول الإسلامية حكمتها لسنوات طويلة أحزاب إسلامية صرفة، ومع ذلك فلم تذهب هذه الأحزاب إلى تطبيق أحكام الفقه القديم، ولم يسجل في برلمانات أندونيسيا وماليزيا وباكستان وتركيا والسودان ومصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وكلها دول برلمانية حكمها الإسلاميون الذين انتخبهم الشعب المسلم، وفيهم كثير من أكبر أساتذة الشريعة في العالم الإسلامي، ومع ذلك لم يسجل خلال فترة حكمهم الطويل أي تحول باتجاه تطبيق الفقه القديم، فهل سنسجل كل الإسلاميين أيضاً كفاراً لا يحكمون بما أنزل الله؟

في تركيا مثلاً وصل الإسلاميون إلى السلطة منذ 25 عاماً، والعدالة والتنمية يحكمون دون انقطاع منذ 19 عاماً ولكن لم يسجل لأي من نواب الحركات الإسلامية هذه المطالبة بالعودة إلى الفقه القديم، ولم تقطع يد ولم يجلد ظهر ولم يرجم أحد في فاحشة، وبذلك فإننا نقول دون أدنى تحفظ لقد أجمعت البرلمانات الإسلامية في العصر على تطبيق الفقه الجديد والتحول عن الفقه القديم.

وبالتوازي مع ذلك فقد وقعت معظم الدول الإسلامية على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وهي اتفاقية أقرتها الأمم المتحدة 1987 وقد وقع عليها حتى الآن أكثر من 157 بلداً في العالم، وتقتضي وجوب التحول إلى العقاب الإصلاحي ووقف عقوبات التعذيب بكل أشكالها، وفي هذا السياق فإن الموقف الشرعي أيضاً يوجب على الخطيب والإمام ورجل الدين أن يلتزم ما اختاره ولي الأمر في شؤون الدنيا، وهو أمر اتفق عليه الفقهاء وأن الإمام (الدولة) حين يختار من الآراء رأياً ويحوله إلى قانون فإنه يتحول من خيار إلى أمر، ويتعين فيه طاعته شرعاً وقانوناً.

المشهد الجديد في العالم اليوم هو إيران وأفغانستان، فقد بات كلاهما يتصدر المشهد السلفي الحرفي، سنياً وشيعياً، وسيتم التسابق بين البلدين كل يوم في تطبيق حروف الشريعة وتجاهل مقاصدها، فهما البلدان الوحيدان في العالم المستمران في فرض الحجاب على النساء بقوة الشرطة، والوحيدان اللذان يطبقان قطع يد السارق (طورت إيران الأمر تقنياً فاخترعت آلة لبتر الأصابع ويتم تطبيق ذلك منذ سنوات) والبلدان الوحيدان اللذان يفرضان للكهنوت سلطة فوق كل مؤسسات الدولة، وقد بات المشهد واضحاً أمام كل مراقب، وإنه ليؤلمني أن يقول الناس في قادم الأيام إن هذه هي الصورة الواقعية لتطبيق الشريعة سنياً وشيعياً، وأن يتنامى قلق الجيل الجديد ليعود بالشك والريبة على جوهر الإسلام نفسه كرسالة سعادة وحب وخير، وأن نفشل في تقديم النموذج الجميل لأبنائنا ونعود بهم إلى جوهر الصراع البائس الذي عصف بأوروبا طيلة العصور الوسطى بين الكنيسة والدولة.

الحكم بما أنزل الله هو تحقيق العدل والمساواة والحرية والسعادة للناس، أما تطبيق البتر والقطع والصلب والجلد وترك الناس في فقرها وعنائها وبؤسها وقطيعتها مع العالم والحضارة فهو الكفر بما أنزل الله!