شورش درويش
خلال اللحظات الأولى التي أفضت إلى القضاء على النازية واحتلال ألمانيا لا نكاد نعثر، منذ انقضاء الحرب العالمية الثانية، على تواجد لجنود روس وأميركان في أرض واحدة مفتوحة دون تحاجز أو تباعد واضح، كما كان حال التواجد في برلين المقسّمة إلى نصفين مرسومين ومحدّدين، إلّا أننا نجد هاتين القوّتين في ذات المكان بشمال شرقي سوريا وتحديداً بالقرب من القامشلي حيث أفضى تواجدهما إلى حدوث اشتباكات قليلة بالأيدي بين الجنود الأميركان والروس ودخولهما في سباقات وتضييق على عربات بعضهما البعض مثيرين الغبار في الطرق الضيّقة وكأنّها عربات تسير في رحلات سفاري. بيد أن درجة الاستعراضات والتحديات تلك لم تبلغ مستوى الاشتباكات المسلّحة، وغاية الأمر هو تعويل الروس على انسحاب أميركي في نهاية المطاف، ويقين أميركي مقابل من أن سوريا جزء من منطقة نفوذ تقليدية روسية وأن الاستمرار في البقاء يعني مزيداً من الشقاق في العلاقة مع تركيا واستنزافاً لطاقتها المدخرة في صراعات دوليّة أكثر أهمية.
بسلاسة وهدوء نفَذت القوّات الروسية إلى عمق مناطق التواجد الأميركي مع فراغ الانسحاب الجزئي الأميركي، وضاعف من ذلك التواجد الاتفاقات التي نسجتها موسكو مع أنقرة بغية تسيير دوريات حدودية مشتركة، فيما لم يثر ذلك التواجد الروسي حفيظة واشنطن التي بدت مرتاحة في نقل جزء من “معضلة” التواجد إلى أطراف أخرى على نحو يفيد برغبتها في أن يكون انسحابها النهائي مقروناً بترتيبات معقّدة ومتتالية تتحمّل وزرها القوّتين الروسية والتركية وبما لا يحمّل الولايات المتحدة مواقف أخلاقية جراء انسحابها المفاجئ والذي سيتسبب في حروب و”إبادات” وإخلال بوعود حماية حلفائها على الأرض.
يفترض التفكير في اليوم التالي، أي اليوم الذي يلي الانسحاب الأميركي غير المعلوم، أن تكون الأوضاع أكثر تماسكاً في شمال شرقي سوريا لجهة المسارعة في إبرام اتفاق بين دمشق والإدارة الذاتية، وهو ما ظهر من تخمينات متصلة باللقاءات بين واشنطن وموسكو، ذلك أن الأخيرة في حاجة ماسة لرفع بعض العقوبات الأميركية عن دمشق، ولعل اختبار خط الغاز المصري يمثّل فرصة لدعم هذا الاتجاه التصالحي بين روسيا والولايات المتحدة، فوق أنّه يحقق غاية مشتركة متمثّلة بإبعاد سوريا عن الاحتياجات المتنامية للغاز الإيراني، ناهيك عن تجاوز أزمة المعابر الحدودية داخل مجلس الأمن الذي شكل اختباراً لفكرة التقارب بين القوّتين، فيما تكون حاجة الولايات المتحدة أكثر إلتصاقاً بفكرة تحقيق انتصار جزئي يتمثّل في رعاية روسيا للمفاوضات بين دمشق والقامشلي وبما يساهم في تقليص هامش الحرب التي تستعد لها تركيا وما قد تمثّله من وصمة سيئة أخرى في سجل إدارة بايدن وطرائق انسحاباتها، ولعل الزيارة التي قام بها مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” إلى موسكو يصب في ساقية هذا التوجّه، كما أن زيارة واشنطن اللاحقة تُقرأ أيضاً في ذات السياق، وهو سياق الاطمئنان على مستقبل الإدارة الذاتية.
وتسعى موسكو، من خلال تلمّس تصريحات رسمييها، إلى رعاية الاتفاق بين دمشق والإدارة الذاتية في شكل مغاير لما تطمح إليه الإدارة أو دمشق، إذ تفضّل روسيا أن تكون المحادثات على أساسٍ مختلف، أي بين الكرد والنظام، وأن شكل الكيان اللامركزي لن يكون ممتداً إلى حيث تسيطر قسد بقدر ما سيكون على أساس التواجد الإثني الكردي، ما يعني قصر الحديث على المسألة القومية الكردية دون الوقوف على المناطق “العربية” وهو ما سيقلّص حدود الإدارة الذاتية ويحوّلها من كيان جامع للإثنيات إلى آخر أكثر تمثيلاً للكرد، وفي الغالب الأعم ستوافق دمشق على المبدأ العام، أي الحوار والسير في مسار “اللامركزية” غير أن النتائج ستقترن بضغوط موسكو وإمكانية استخدام واشنطن خيار العقوبات والحصار الاقتصادي وإن عن بُعد، وهو ذات الخيار الذي قد يطاول أنقرة حال استكمالها لمشروعها الاحتلالي والذي سيتسبب، بالضرورة، في اضطهاد الكرد وطردهم من أراضيهم.
تقرأ تركيا أيضاً اليوم التالي، المفترض، على أنّه يوم الانقضاض على الإدارة الذاتية وتقاسم الفراغ الأميركي مع الروس، وما تجهيز ميليشيا “الجيش الوطني السوري” بمسمّى “جبهة التحرير الوطني” إلّا تجهيزاً لهذه المليشيات للخوض في حرب ضد قوات سوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى التحايل والتعمية على اتهام فصائل الجيش الوطني بارتكاب أعمال إرهابية كما في حالة ميليشيا “أحرار الشرقية” التي صنّفتها واشنطن مجموعة “إرهابية” وبالتالي تمثّل صيغ الإدماج وتغيير أسماء الميليشيات وسيلة للتهرّب من المحاسبة والمساءلة، وبطبيعة الحال ستعمد أنقرة على التقارب مع موسكو على ما تشكّله من “وريث” معتبر للأميركان، كما لا يمكن استبعاد اتخاذ تركيا خطوات مغامِرة في شمال شرقي سوريا حتى وإن تسبب في غضبة أميركية أو اضطرتها إلى فرض عقوبات محددة “مدمّرة للاقتصاد التركي” كتلك التي لوّح الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بتنفيذها في حال استمرت أنقرة في التوسع أبعد من مناطق السيطرة المحددة بين رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض.
وبمعزل عن تكرار الرسميين الأميركان وعودهم المتمثّلة بثنائية محاربة داعش وحماية حلفائهم (قسد)، تبقى مسألة التفكير في اليوم التالي شاغلة القوى الدولية والإقليمية في سوريا، ولا شك أن الأكثر انشغالاً في هذه المسألة هي الإدارة الذاتية التي يفترض بها التفكير بخطوات مسبقة حتى وإن كانت من قبيل “تجرّع السم” والقبول بالتغيير الكبير الذي سيخلّفه غياب واشنطن على الأرض، فالمهم والأهم قطع الطريق على التدخّل التركي، على ما يحويه التدخل من وحشية وبربرية مجرّبة، وهو أفضل ما يمكن فعله في جميع الأحوال. تبقى المفارقة الأبرز في انتظار اليوم التالي هي أن جميع الأطراف وبلا استثناء، ستضرر بتفاوت، حال خروج الأميركان دون ترتيب الفوضى التي ستخلّفها وراءها، وهو ما سيجد مكانه في العبارة التي باتت تقال في حق التدخلات الأميركية: “إذا كان تدخل أمريكا خطأ من نوع ما، فإن انسحابها هو خطأ اكبر”