حرفيون في ريف إدلب يقاومون اندثار الصناعة اليدوية للزجاج
إدلب – نورث برس
بين قطع الزجاج الملون وأمام فرن متوهج يجلس محمد الجاني (38 عاماً)، ممسكاً بأنبوب فولاذي في نهايته عجينة زجاجية أخرجها للتو من الفرن، ومن خلال النفخ في الأنبوب وبحركات رشيقة يشكل منها إبريقاً جذاباً، وما إن تبرد العجينة حتى يبدأ بعملية تزيينه ورسم النقوش ليخرج تحفة أنيقة غاية في الجمال .
وتشتهر مدينة أرمناز شمال غرب إدلب، التي يعيش فيها “الجاني”، بانتشار هذه الحرفة فيها منذ القدم بسبب توفر المادة الأولية وهي الرمال الزجاجية، ووجود نبتة محلية تعرف باسم (القلة) التي تساعد على تصفية الزجاج من الشوائب.
لكن مؤخراً، تراجع عدد الورشات في المنطقة من 40 إلى 10 ورشات فقط، بسبب إغلاق طرق التصدير واقتصار البيع على زجاجات الأراكيل وتلبية رغبة محبي منتجات هذه الحرفة.
وبالرغم من ذلك لا يزال “الجاني”، يحاول جاهداً للحفاظ على المهنة التي ورثها عن أبيه وجده.
وبالرغم من أنه أورثها لولده لكنه يقول إنه يخشى عليها من الضياع، “لقد علمتها لولدي لأنها جزء من تاريخ المدينة وتراثها وهوية بلدنا”.
وصناعة الزجاج اليدوية في إدلب من المهن القديمة التي ما زال محترفوها يسعون للإبقاء عليها في ظل ظروف الحرب، لكنها تراجعت بشكل ملحوظ في منطقة تعتبر من أشهر المناطق المعروفة بهذه الحرفة.
وتشمل الحرفة صناعة الأباريق والكؤوس الزجاجية الملوّنة وزجاجات الأراكيل، بالإضافة لمنتوجات أخرى تلبي متطلبات السوق المحلية.
ويتميز الزجاج اليدوي بجماله وعلى درجة عالية من الإتقان والحرفية، ما يمنح المنتج روحاً فنية خالصة لا تتوفر في القطع التي تنتجها الآلات والمصانع.
مراحل عمل متسلسلة
يقول “الجاني” إن المادة الأساسية التي يستخدمها في عمله هي الزجاج المكسر من خلال إعادة تدويره.
“بعد تنظيف الزجاج من الشوائب وفرزه حسب اللون، نضعه في الفرن بدرجة حرارة تتجاوز 1000 درجة مئوية حتى ينصهر ويتحول لسائل شفاف مرن يسهل تشكيله”.
وبعد هذه المرحلة يقوم الحرفي بتشكيل القطعة التي يرغب بها عن طريق النفخ ليتوزع الهواء في أركانها باستخدام أنبوب فولاذي توضع عليه العجينة الزجاجية، ثم يتم تحريكها في الهواء بحركات سريعة للوصول إلى الشكل المطلوب.
وتأتي مرحلة طلاء القطعة بالألوان، قبل وضعها في الفرن بدرجة حرارة لا تتجاوز 60 درجة مئوية ليتم تنقية اللون من الشوائب.
وفي المرحلة الأخيرة، يجري رسم الزخرفة والنقوش على القطعة باستخدام ألوان حرارية، ليتم تغليفها بورق مقوى لعرضها في الأسواق.
وبالإضافة إلى ذلك، يقوم الحرفي بصنع زجاج “الكريستال” الذي يحتوي على نسب مختلفة من أوكسيد الرصاص.
ويستخدم هذا النوع في صناعة صناديق الزينة والأواني والثريات، وكذلك في صناعة الخواتم والمزهريات، كما يصنع زجاج العقيق الذي يستخدم في صناعة حلي النساء .
يقول “الجاني” إن المهنة صعبة وتحتاج لمهارة فنية عالية، كما تحتاج للدقة والخبرة وللكثير من الصبر والقدرة على تحمل درجات الحرارة العالية، لكي يستطيع الحرفي النجاح فيها .
صعوبات خلقتها الحرب
حسن البصاص (50 عاماً)، وهو من سكان مدينة إدلب، يتقن صناعة الزجاج منذ نحو 30 عاماً، ويتمسك بالطريقة البدائية في التصنيع.
لكنه يقول إنه يحاول باستمرار تطوير حرفته، بالرغم من أن الحرب خلقت الكثير من الصعوبات والمشاكل.
“كنا قبل الحرب نعتمد على تصدير القطع الزجاجية لدول الخليج والدول الأوروبية، ولكن إغلاق الطرق اليوم يحول دون ذلك، إلى جانب قلة اليد العاملة ذات الخبرة والكفاءة، وارتفاع أسعار المواد الأولية وصعوبة تأمينها، والظروف الأمنية إلى جانب انقطاع التيار الكهربائي وغلاء أسعار المحروقات” .
وعن الأدوات التي يحتاجها في عمله، يقول: “أدواتنا بسيطة، حيث نحتاج في عملنا لملاقط وقوالب نحاسية وأنابيب للنفخ بأحجام مختلفة وعصى لالتقاط العجينة التي تتحول لاحقاً إلى زجاج”.
ويلفت “البصاص” إلى أن أسعار الزجاج المصنوع يدوياً أغلى من الزجاج الصناعي الذي يعتمد في تصنيعه على الآلات والقوالب الجاهزة، حيث يبيع إبريق الماء المصنوع يدوياً بمبلغ 60 ليرة تركية، فيما لا يتعدى سعر المصنع آلياً 25 ليرة تركية .