القامشلي ـ نورث برس
الشام، هذه المدينة، كانت أم المدائن. “كثيرة المياه والبساتين، وموقعها في سَهْلِ خصيبِ في غوطة كانت تُعدُّ من أفضل جنات الدنيا وإلى شمالها جبل قاسيون يزبدها بهاء هوائها ونضارة مائها”.
وقيل في (دمشق / ـها): هي جنة المَشرِق، ومطلع نوره المُشرِق.. وعروس المدن التي اجتليناها، وقد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حُللٍ سندسيةٍ من البساتين، وحلَّت من الحُسن بالمكان المكين، وتزينت من منصتها أجمل تزيين، وتشرَّف بأنْ آوى المسيح عليه السلام وأمه مريم إلى ربوتها.
جاء في سيرة الشيخ الأكبر “ابن عربي” أنه قال: حملت الرياح إلينا نسمات غوطة دمشق مُحمَّلة بروائح الدّراق والخوخ والجوز ونحن مقبلون عليها.. كنت أمشي كمريض تدبُّ في بدنه العافية شيئاً فشيئاً. اختلطت روائح المدينة وأصواتها وصورها وأناسها بعضها ببعض فصارت أشبه بيدٍ حانيةٍ تمسح على جبيني التعب، وتمس قلبي فيهدأ كل شيء مررنا به مُذ تجاوزنا الباب سوقاً أو داراً أو بستاناً أو خاناً كان يشبه العهد الذي تقطعه دمشق على نفسها أن تكون خير مقامٍ للمتعبين والغرباء الذين خدش الحب قلوبهم مرة أو مرتين. مدينة تنزع عنك غربتك عند أبوابها فلا يدْخلها أحدٌ إلا صارت له وطناً.
وتقول امرأة “ابن عربي”: هل نحن راحلون؟! أجل، إلى دمشق. ولماذا دمشق؟ لأنها مهبط عيسى عليه السلام يوم القيامة. ولقد كانت توبتي “عيسوية”، فإني أرجو أن يكون مماتي بمهبطه. كم نمكث هناك؟ قلت لك إني أرجو أن يكون مماتي بمهبطه.
أما في عمارتها، فقد كانت ” كأبراج مبنية بحجارة من وجه الأرض إلى ما فوقه بثلث أو أربع أذرع وما فوق ذلك من طوب اللِّبْن والخشب.. ولا منظر لها من خارج، وأما من داخل فهي دور فسيحة مزخرفة بأنواع النقوش، وفي صحنها بِرَكٌ محفوفة بالليمون وغيره من الأشجار مع كثير من النباتات العطرية ذوات الأزهار الجميلة والروائح الذكية. ولنساء دمشق غرامٌ زائدٌ بالأزهار فيحرصن عليها الحرص الشديد”.
أما أرضها فمُزينة بقبور العظماء وما أكثرهم.. منهم الأديب والعلامة ابن عساكر الذي دفن بسفح قاسيون. ومن شعره:
تطلَّبتُ في الدنيا خليلاً فلم أجد وما أحدٌ غيري لذلك واجدٌ
فكم مُضمِرٍ بغضاً يريك محبةً وفي الزند نار وهو في اللَّمس باردٌ
لعله وجد في الشام ما هو جدير بالخِلِّ!..
أما في الكتاب فموضوعه جليل وجميل، ويتطلب الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد، أهله وجيرانه ومن لم يرزق حظاً من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات، وما أتاه أجداده من الأعمال، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد. بهذه العبارات بدأ العلامة الكبير محمد كرد علي كتابة “خطط الشام”، وتحديداً في عام 1925، عندما كانت سوريا بلاد خير وعمران.
ويتألف الكتاب من ستة أجزاء. يأتي الأول على تعريف الشام وسكانها ولغاتها قبيل الإسلام، أي منذ فجر التاريخ وحتى الحروب الصليبية إلى نهاية السلاجقة.
ويواصل الجزء الثاني رحلته مع الدولة النورية ووصولاً لنهاية الدولة العثمانية وأسباب سقوطها.
ويقف في الجزء الثالث عند تقسيم الديار الشامية بين فرنسا وإنكلترا وصولاً لتاريخ دولة إسرائيل.. ومروراً بالتقاسيم الإدارية الحديثة بدءاً بالتقاسيم القديمة قبل الإسلام وحتى الدول الشامية التي ظهرت خلال الربع الأول من القرن العشرين، مستشهداً بالوثائق والمعاهدات، بالإضافة إلى الحركات السياسية التي قسمت المنطقة إلى دول وكيانات.
ويتحدث المؤلف في الجزء الرابع عن جوانب الآداب والعلوم والفنون الجميلة والتمثيل والإصلاح الفكري .
ويأتي الجزء الخامس على الزراعة الشامية وأنواعها وأصنافها وأماكن تواجدها، والصناعات والتجارة، والجيوش، والجباية والخِراج، والأوقاف، والحِسْبة والبلديات والطرق والموانئ والمرافئ، والبريد والبرق والهاتف، والجانب العمراني.
وفي الجزء السادس والأخير حديث عن الأديرة والكنائس وعمل الرهبان، والمساجد والمدارس والخوانق والتكايا والمستشفيات ودور الكتب والآثار والأديان والأعراق والمذاهب والأخلاق التي واكبت تلك الحقبة من الزمن. بالإضافة إلى سرد مفصل عن حياته / الفكرية والسياسية.