القامشلي ـ نورث برس
يتذكّر العالم في هذه الأيام ذكرى وفاة الشاعر الكبير محمود درويش، الذي توفي في تاريخ التاسع من آب/ أغسطس عام 2008، في الولايات المتحدة الأميركية، ووري الثرى بتاريخ الثالث عشر في مدينة رام الله بفلسطين.
وتعيد هذه الذكرى إلى الواجهة صدع الارتحالات، ورحلة الهجرات المضنية، التي بدأت تغير معالم الذات والهويات الضائعة في أوطانها وأوطان الآخر.
وهنا يبدأ سؤال المعنى، وكيف تكون اللغة ملاذاً وشكلاً من أشكال الاغتراب والاقتراب على حد سواء. بمعنى ثمة تفاهم بها، يبني الشاعر من خلاله جسراً ممتداً إلى الطرف الآخر – لغة الآخر، في سبيل التواصل في زمن يحتاجه الكل.
و”درويش” لا يريد أن تكون لغته أحادية، بل لغة تتمتع بفكرة العطاء وإدراك حضور الآخر، واختلافها مجرد “حالة” للوصول إلى حقيقة ما تتحاور فيه الذات مع ذات أخرى.
من بين ما تم اكتشافه من خلال الغوص في أعماق تجربة “درويش” الشعرية، هو أن “الشعر لا ينفتح بدلالة أفق ضيقة وخاصة، وإنما هو يتشكل بدلالة آفاق واسعة.”
والشاهد على ما سبق، هو قصيدته “ليس للكردي إلا الريح” التي سعى فيها “درويش” إلى حوار منتظم، يبني من خلاله إعادة النظر في الذات، والانفتاح على ذات الآخر (شريك الصداقة والإنسانية والوجود)، والوقوف عند البدء الأول حيث مقام الكينونة.
وهكذا سنجد درويش يدخل في حوار شعري مع الأنا، ومع الآخر (الكردي) المختلف عنه، في زمن تتجلى فيه جمالية الهويات المتصارعة، ليكون الشعر بالفعل شعراً أصيلاً، غايته الآخر، أو السكن في العالم، والإقامة في الشعر، جوار الوجود، لأنه يمنح تصوراً جديداً للتاريخ والإنسان، ولأنه “بيت الكينونة” كما تصوره الفيلسوف “هيدجر”.
وكتب الراحل قصيدته “ليس للكردي إلا الريح” التي تمثل رؤيا العربي الذي يعي ذاته للكردي الذي يعيش في مدارك النفي والمنفى.
وفي القصيدة وصف “درويش” صديقه سليم بركات في الأبيات الأولى، مركزاً على البعد القومي في شخصيته:
“يتذكر الكرديُّ حين أزوره، غدَه..
فيبعده بمُكنسة الغبار: إليك عنّي!
فالجبال هي الجبال. ويشرب الفودكا
لكي يُبقى الخيال على الحياد: أنا..”.
وحين يتحدث عن أبعاد الهوية المتوارية في لغة عند “بركات”، فإنه يقصد اللغة التي تحمل الرؤى والمشاعر، والحنين والأنين. يقول:
وينفض عن هويته
الظلال: هويتي لغتي .. أنا.. وأنا
أنا لغتي.. أنا المنفي في لغتي”.
ثم يشير إلى هويته القومية بشعرية جميلة، مليئة بالمشاعر الإنسانية النبيلة، فيقول:
“وقلبي جمرة الكردي فوق جباله الزرقاء..”.
ثم يتحدث الشاعر عن تصورات “بركات” وفكرة الفراغ، الجهات الأخيرة، السكاكين المُجلَّخة، الجنِّي الذي يُلهمه. والحلم الذي لا أمس له ولا غد، سوى أنه اللحظة البيضاء:
“.. هكذا
اختارَ الفراغ ونام. لم يَحلمْ
بشيء مُنذ حَلَّ الجِنُّ في كلماتِهِ،
كلماتُهُ عضلاتُهُ.. عضلاتُهُ كلماتُه
فالحالمون يقدِّسون الأمسَ، أَوْ
يَرْشُون بوّابَ الغد الذهبيِّ..
لا غَدَ لي ولا أمس.. الهنيهةَ
ساحتي البيضاء..”.
ويكشف “درويش” عن سر انتصار “بركات” على الغياب، ورفض كلاهما المضي نحو للصحراء.. وحده الريح منفاي / منفاه.. فـ “بركات” يعرف ما يريد من المعاني. المعاني كلها. وينتهي الكلام:
“باللغة انتصَرْتَ على الهوية،
قلت للكردي، باللغة انتقمت
من الغياب
فقال: لن أَمضي إلى الصحراء
قلتُ: ولا أَنا..
ونظرتُ نحو الريح
– عِمْتَ مساء
– عمت مساء!”.
بعد هذه القراءة الموجزة، تجدر الإشارة إلى جمالية “الإهداء”، هذه العتبة النصية التي جعلها “درويش” مستقر المعنى، عندما كتب عبارته التالية: إلى سليم بركات. فأي معنى في نقطة الانتهاء هذه أراده مبدع كبير في حقِّ مبدع كبير!؟.