دمشق – نورث برس
يرى فادي مخول (23 عاماً)، وهو طالب في كلية الهندسة الزراعية بجامعة دمشق، أن البقاء في البلاد بعد التخرج أصبح “كابوساً” يلازم كل شاب سوري في الداخل، وأن لا حل أمام اليافعين والشباب، لا سيما الذكور، إلا التفكير في الهجرة.
وبعد مرور أكثر من عقد على الحرب في سوريا، ورغم الهدوء النسبي في بعض جبهات القتال مقارنة مع سنوات سابقة، ما يزال الشباب السوري يهاجر نحو الخارج بحثاً عن مستقبل يضمن لهم حياتهم.
وتمثل الخدمة العسكرية الإجبارية والملاحقات الأمنية والظروف المعيشية أبرز أسباب الهجرة التي يحذر مختصون من آثارها على البلاد وسكانها.
تجنيد إجباري
وقال فادي، الذي يقيم في حي القصاع بالعاصمة، إن “التفكير بالهجرة هو أحد الخطوات التي أصبحت أساسية لدى كل طالب جامعي.”
وأضاف لنورث برس: “لا يمكنني البقاء في البلد بعد تخرجي، وذلك بسبب الخدمة العسكرية التي أصبحت نهايتها مجهولة ولا وجود لسنة تسريح معينة بعد اندلاع الحرب.”
ويعتقد الشاب أن عدم قيام الحكومة بطرح أي تعديل على قوانين التجنيد الإجباري “سيسبب أزمات اجتماعية كبيرة نتيجة تفريغ البلاد من الذكور.”
وتفرض الحكومة السورية على الشباب الذكور البالغين 18عاماً في مناطق سيطرتها خدمة عسكرية إلزامية تسميها “خدمة العلم” وتبلغ مدتها الاعتيادية عاماً ونصف العام.
لكن السلطات، ومنذ بداية الصراع في سوريا، توجهت إلى تفعيل خدمة الاحتياط، والتي يتم الاحتفاظ بالجنود بموجبها لمدة غير معلومة.
وتؤكد العديد من الدراسات الاجتماعية وأرقام حكومية رسمية على الارتفاع الكبير لنسبة الإناث بالمقارنة مع نسبة الذكور الموجودين في سوريا، مع استمرار ازدياد الفارق بين تلك النسب.
ويعتبر “مخول” نفسه أفضل حالاً من غيره، “فأنا من عائلة ميسورة الحال نسبياً، وقادر على دفع تكاليف سفري بالإضافة لتكاليف دراستي في إحدى الجامعات خارج البلاد، لكن غالبية الشباب غير قادرين على تأمين تكاليف السفر حتى بالطرق غير الشرعية والخطرة.”
وتُعتبر فئة الشباب الذكور خاصة الجامعيين، أكثر الفئات المعنية بالهجرة والساعية لها، نظراً للعوائق الكثيرة أمام مشاريعها المستقبلية.
وبحسب دراسة أجرتها شبكة “أمان سوريا” ، التي تضم نشطاء ومنظمات تعمل لبناء السلم المحلي و الوطني في سوريا، فقد أدى تفاقم الأزمات المعيشية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الوضع الأمني إلى ارتفاع نسبة الهجرة بين الشباب.
وتصل نسبة الشباب إلى حوالي الـ50% من اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية والدول المجاورة. بحسب إحصاءات غير رسمية.
ملاحقات أمنية
وتُعد هجرة الشباب السوري من أبرز الظواهر التي خلفتها الحرب السورية على امتداد الجغرافيا كلها، وذلك لعدة أسباب مختلفة دفعتهم إلى ترك البلاد، رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجههم على طريق اللجوء.
وعقب ثلاث سنوات اعتقال قضاها عامر السعيد (39 عاماً)، وهو اسم مستعار لأحد سكان دمشق، في سجون الحكومة السورية، تمكن من الهجرة إلى لبنان، هرباً مما أسماه “بطش القدر والمُقتدِر” في بلاده والذي ازدادت شدته بعد اندلاع الاحتجاجات عام 2011.
ويرافق اللاجئ شعور دائم بالخوف على ذويه في سوريا من تعرضهم للمضايقات من قبل قوات الأمن، خاصة بعد السنوات الثلاثة التي قضاها في السجن، والملاحظات الأمنية على اسمه واسم عائلته.
واعتقل “السعيد” على خلفية مشاركته في إحدى النشاطات الاجتماعية الإنسانية المعنية بقضايا النازحين، والتي كانت تهدف إلى مساعدة نازحين من مناطق الاشتباكات.
يقول لنورث برس: “أزعجت مشاركتي الحكومة السورية، لأنني تخطيت موافقاتها الأمنية، لتبدأ بملاحقتي ومضايقتي.”
ولا يتفق “السعيد” مع الدول التي تدعي انتهاء ظروف الهجرة في بلاده وعودة ظروف العيش الآمن لها.
وفي نيسان/ أبريل الماضي، انتقدت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، سياسة الدنمارك تجاه اللاجئين السوريين، على خلفية حرمانها لاجئين سوريين من تصاريح الإقامة باعتبار أن الوضع في مدينتهم دمشق آمن.
وقالت المفوضية في بيان صدر في نيويورك: “لا تعتبر المفوضية التحسينات الأمنية الأخيرة في أجزاء من سوريا جوهرية بما فيه الكفاية، ومستقرة أو دائمة، لتبرير إنهاء الحماية الدولية لأي مجموعة من اللاجئين.”
آثار قاسية
ورغم أن معظم العائلات السورية تعاني من الشتات الذي سببه تفرق أفراد العائلة، لكن الضغوطات المعيشية ما تزال تدفع الأبناء للخروج بحثاً عن بصيص أمل لهم ولعائلاتهم.
يقول مازن محمد، وهو اسم مستعار لموظف يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية في دمشق ويعيش في بلدة صحنايا بريفها، إن “العوز والحاجة دفعا ابنه الوحيد للهجرة لتأمين لقمة العيش.”
ويضيف “محمد”، وهو متزوج وله ثلاثة أولاد، لنورث برس، إلى أن الغلاء الفاحش الذي “لم نعد نقوى على تحمله، أجبر ابني للسفر مع مجموعة من الشباب بحثاً عن فرص عمل خارج بلاده.”
وكان الابن الشاب يعاني بسبب الوضع المعيشي القاسي وعدم العثور على “عمل يحترم شهادته وإنسانيته”، بحسب قول الوالد.
وتوجه العديد من الدراسات الاجتماعية والميدانية النظر باتجاه الأزمات المتراكمة والمستقبلية التي تكتنف استفحال هذه الظاهرة وتأثيراتها العميقة في البناء الاجتماعي.
وقالت شهد العلي، وهو اسم مستعار لباحثة في علم الاجتماع، إن” التأثيرات الاجتماعية السيئة لهجرة الشباب تطال حتى الإناث المقيمات بالبلد والطاعنين في السن والأطفال والخبرات العلمية والكفاءات.”
وتضيف الباحثة لنورث برس أن نسبة العاملين المسنين ازدادت، بسبب تراجع أعداد الذكور وسوء الوضع المعيشي، وأن عملية الاستقالة من الوظائف أصبحت صعبة بسبب انخفاض نسبة الشباب العامل في المؤسسات الحكومية.
بالإضافة إلى التمديد المستمر في العمل لأصحاب الخبرات القليلة المتبقين في البلاد والدعوة لرفع سن التقاعد لأساتذة الجامعة إلى سن 65 عاماً، بحسب الباحثة.
وأشارت “العلي” إلى أن “هذه الظاهرة تنعكس في بتراجع الإنتاج في المؤسسات وضعف فعاليتها، خاصة مع عدم وجود حوافز للاستمرار في العمل.”
فيما يبقى اعتكاف الشباب عن الزواج أحد أسوأ النتائج التي يمكن أن تنعكس آثارها على المدى الطويل في تحول المجتمع إلى مجتمع عجائز غير قادر على القيام بشيء، بحسب عاملين في المجال المجتمعي في العاصمة دمشق.