علامات موسيقية بين العلاقات التصويرية

القامشلي ـ نورث برس

لنجعل من شعر “طاغور” مدخلاً للقراءة، ولندع العين تتأمل على مهلٍ:

إنّي أجهل كيف تغني، أيُّها المُعلِم، أصغي أبداً بذهولٍ صامتٍ. فإنارة موسيقاك تُضيء الكون. والنفس الحيّ لموسيقاك يهاجر بين السماوات. والمجرى الأقدس يخترق ويمضي. وأنا قلب يتطلّع لملاحقةِ أغانيك، ولكن يتعثّر صوْتي عبثاً. هيهات! أنْ تولد أغنيةً من محض حديثي وصُراخي! مأسورٌ قلبي لشبّاك أغانيك، يا معلمي”.

هذه المُقطَّعة البديعة، تجعلنا نختصر الكثير من القراءات.. ولكن..

في أساطير آشور، نقوشٌ، تُمثل “موكب الملوك، سائرة، وآلات الطَّرب تتقدمها. قيل: إنها عنوان المجد في الحفلات ورمز السعادة في الأبدية”. إنها تراتيل مُرسَّمة في المعابد.

ويكتب أحدهم: “كل لوحة يجب أن “تتمتع بأسلوب يميزها.. بمقدار اختلاف الهارموني. ومن هنا يمكن تتابع / وتتبع حركة الفتنة الكامنة في الفن الموسيقي. إن ما يطرب القلب عبر الأذن يجب أن يطربه ماراً بالعين أيضاً”. وهنا، يجوز – خلافاً للبيت القديم – القول: والعين تعشق قبل الأذن أحياناً.

وقال حكيم هندي: “إن عذوبه الألحان توطِّد آمالي بوجود أبدية جميلة”. وهي الصورة المنسية في ذاكرة الإنسان.

من جهة مغايرة، يرى نيوتن أن ألوان الطيف السبعة إنما تقابل الفواصل السبع (دو، ري، مي، فا، سو، لا، سي..)، التي تفصل بين نغمتين في السلم الموسيقي. الألوان التي تبدو متناغمة عند سوية ذات صلة بالنسب المضبوطة لفواصل السلم الموسيقي المنسجمة مع بعض.

أما غوته، فقد سمع صدى الصوت في مظاهر اللون، يقول: .. كلاهما – ربما – يحدران من صيغة أعلى. ويعملان وفق قانون كُلّي. وقيل في الألوان التي كان روبنز يستخدمها ببراعة: موسيقى للعين.

ووفق قواعد غرافيكية وتصميمة، فإن لعنصر الخط، واللون، والملمس، والشكل، والكتلة والفراغ، والإيقاع واللحن والتناغم، والنسيج، والظل والضوء.. الخ، محلٌّ في تقاسيم اللوحة وأقسامها. تمنحها – وفق الثنائيات الضدية – أبعاداً حيوية، وتدفقاً، وفيضاً، تماماً كحال اللحن في مقدار ارتفاع منسوبه وانخفاضه، ورقَّته ودقَّته، والانتقال من مقام إلى مقام بلا نشاز. إنها الخطوط / علامات تتكرر للوصل والفصل، تستقيم مرة وتنحني في منحنيات اللوحة مرات ومرات، واللون وصفاته / صوت وصداه، والظل والنور / إيقاع يبدأ من السطح وينتهي إلى مكان من أقواع القلب..

هذه المُقطَّعات، ما هي إلا علامات في طريق القارئ إلى فضاء اللوحة.. إلى همس اللحن المتواري في نسيجها.. إلى الفتنة الكامنة بين العناصر وعلاقاتها.. إلى متاهات التأويل للاستحواذ – قدر ما يمكن – على اللَّذة والمتعة التي تتجلى في تضاعيف اللوحة.. ومنطق هذا السبيل هي أن الإنسان، بطبعه، كائن خطِّيٌّ.. لونيٌّ.. صوتيٌّ.. تناصيٌّ.. وبالجملة، كائن علاماتي. يعبر عن نفسه، وعن كل شيء من خلال العلامات سواء كانت تصويرية أو موسيقية.. “كل كائنات الدنيا، هي كتاب ورسم، (وصوت – لحن)، يتجلى في مرأة” – كما يرى “أمبرتو إيكو”. وإذ نفترض أن في اللوحة لحن، ولكننا لا نسمعه. وإذا نؤكد عليه، فلأننا نراه، ونحس به، من خلال عدد هائل من العلامات.

والآن، لا يسعنا، ونحن نردد ونعدد.. إلا أن نتأمل لوحة “عازف العود” للرسام “لؤي كيالي، وهي ضرب من الطرب في تشكيل أصيل، واستجماع هندسي تجتمع فيه خاصيات الفن المعاصر من خلال الإيهام الصامت بالصوت، والخداع الذي ينزع نحو الحركة (تأمل النقوش على صدر العود – حركة.. والشريط الزخرفي الذي يحيط بأطراف العود – صدى صوت).

إنها لوحة تذكرنا بالموسيقا الأندلسية.. بالموصلي وزرياب.. بالمغني المنسي “رشيد صوفي” وسواه. وتذكرنا بعصرنا الصاخب. فنقف.. في منزلة بين الحقيقة والوهم. إنها لعودة إلى اللحن الأول الذي تلهج به كلمات إميل سيوران: نحمل في داخلنا الموسيقى كلها، إنها تثوي في أعمق طبقات الذكرى، كل ما هو موسيقي يعتبر ذا علاقه بالتذكير، لا شك اننا استمتعنا عندما كنا بلا أسماء الى كل شيء.

وكم تأملت وجه العازف الحساس، فرأيت الخطوط تنحني وتضغط على الأكتاف.. وتنقبض عند الأصابع، وتدور – كأنها – في النقوش. ورأيت جوهره في مظهره. همس، عزف. كم تأملت البراعة التصويرية – الفنية فائقة الحزن. ولكنني، مازلت ” أجهل كيف تغني، أيها المعلم”.

إعداد وتحرير: محي الدين ملك