دور الدولة واختراق حاجز الشأن الخاص

سياسات الدول المتحضرة وخصوصاً الدول الأوروبية فيما يخص الأسرة تعطي دوراً هاماً وإيجابياً للدولة التي تتدخل بشكل كبير في حياة المواطنين, ورغم كون الإنجاب مسألة خاصة تخص الأبويين إلا أن المجتمع قرر أن للدولة دور هام في تنظيم حياة الأسرة وظروفها وتوفير إمكانيات حضانة لائقة للطفل ومشاركة الدولة فيها كي تخرج والدته للعمل، فعمل المرأة ينظر له على أنه من الضروريات لتوازن المجتمع.

في الضفة الأخرى، كثيراً ما نتحدث في العالم العربي والمشرقي عن ضرورة تعليم المرأة وعن ضرورة دخولها سوق العمل ولكنه يبقى مجرد كلام نظري لسياسيين لا يلامسون الواقع, فخروج الأم للعمل متعثر كونه يستدعي تنظيماً شاملاً خارج البيت وداخله, وظروفاً غير موفرة بسبب رفض الدولة تحمل أي مسؤولية تجاه الأمر.

وإن كان الإنجاب شأناً خاصاً بالأبويين، فرعاية الأطفال وتربيتهم في ظروف لائقة تعد قضية شأن عام ومسؤولية المجتمع بأكمله أي الدولة, فمن أكبر الأخطاء اعتبار أن الدولة شيء والمجتمع شيء آخر. وبالتالي الدولة معنية بانتهاج سياسات محلية وإقرار ميزانيات تضمن الرعاية الصحية والتعليم.

ولا تنهض الدول على أبناء لم يتلقوا القدر الكافي من التربية والتعليم, وبالتالي تربية الأولاد ليست فقط مسؤولية الأهل بل مسؤولية الدولة أيضاً، فهي ملزمة بفتح دور للحضانة ومدارس ذات مستوى لائق ودور للثقافة والرياضة وتأمين رعاية أسرية صحية ونفسية للأهل والأولاد وكذلك انتهاج نظام مساعدات مادية للأسر ذات الدخل المحدود لاستكمال ما ينقص كل طفل. هذه أبسط الشروط كي يتربى أطفال في مكان ما في ظروف لائقة.

والدول المتخلفة هي الدول التي أهملت تماماً هذه النقطة وبنت اقتصاد الدولة على طريقة غابة الوحوش المفترسة التي يبتلع فيها الغني الفقير, وأما الدول التي استطاعت ان تضع نفسها على طريق النمو ولم تتجه للانهيار هي التي استدركت بسرعة سياساتها الاجتماعية والأسرية, فرفعت حجم مساهمة الدولة في القطاع العام وبالتحديد الأسرة والطفل. وتدخلت في ما تعتبره الدول المتخلفة شأناً خاصاً للأسر لا تتدخل فيه الدولة ولا تنظمه.

 وعلى سبيل المثال، ينظر سياسيون في الدول المتخلفة لقضية تعدد الزوجات، التي تفرض أعباء مادية وكثرة إنجاب على رجل واحد, على أنها شأن خاص، ويُترك العنف الأسري دون أي قوانين تمنعه ودور حماية ورقابة أيضاً على أنه شأن خاص، وكذلك مسألة إنجاب أولاد بأعداد دون تأمين ظروف مادية لكل طفل ودون تحميل الآباء أي مسؤولية تجاههم أيضاً على أنه شأن خاص.

وعمل المرأة أيضا يُعتبر شأناً خاصاً، ومنعها من التعليم وتزويجها في سن صغيرة أيضاً شأن خاص، هو ذا واقع الدول في العالم الثالث، وهو بالتحديد ما يميزها عن المتطورة التي استطاعت حكوماتها أن تخترق حاجز الشأن الخاص لتؤمن بداية عدالة وإنصاف للطفل الذي يولد فيها.

ومنذ نصف قرن، أي منذ مرحلة النهضة في العالم العربي ونحن نسمع أحاديث جميلة عن ضرورة تعليم المرأة وقليلاً عن عملها ولكن مع الزمن أصبح تعليم وعمل المرأة جدياً مسألة انتماء طبقي لا يتاح إلا لبنات الطبقات الغنية, وأما الفقراء فيوقفن بناتهم عن التعليم باكراً ويزوجونهن لتخفيف الأعباء المادية عن الأب.

غياب الدولة واستقالتها عن دورها الاجتماعي أدى إلى عدم توازن أدى بدوره لتراجع الوعي العام وتراجع وضعية المرأة ودورها في المجتمع وبالتالي أدى هذا وما زال يؤدي لتجهيل الأجيال القادمة.

فكيف يمكن لمجتمعات تم تجهيلها بعشوائية وإهمال تام أن تقبل بالتنظيم أي باستعادة الدولة لدورها الشرعي؟

وكيف يمكن للدولة أن تعود للتدخل بإيجابية في أدق تفاصيل حياة أناس بنوا مفاهيمهم دون تخطيط؟

ووزع المجتمع الأدوار بشكل غير صحي, فوضع المرأة في دور المتعة والإنجاب وأعمال المنزل, ووضع الطفل في مكان مهين لا يملك أن يطالب أهله بأكثر من حق الحضور لهذه الدنيا دون تحميلهم أي واجبات أو مسؤوليات, فلا تطوير ممكن لأساليب التربية في المنزل ولا رقابة لأحد عليها.

وما زال العنف الممارس كأسلوب تربية الطفل من قبل الأبويين ومن المعلمين مسموحاً ويمارس بطريقة العصور الماضية ويعتبر في مجتمعات التخلف من ضمن أساليب التربية المعتمدة, هذا مع أن الضرب أصبح جرماً في المجتمعات الحديثة حتى على الحيوانات, وهكذا سحبت حكومات أوروبية أولاد لاجئين سوريين من أهل كانوا يمارسون العنف عليهم دون أن يفهم الأهل لماذا تتدخل الدولة وما هو حق المجتمع الجديد عليهم.

لكن هذه الروادع التي تضمنها الدولة للطفل تخص فقط المجتمعات التي تحترم أبنائها وأما أطفال سوريا خارج دول اللجوء الغربية فما زالوا ضحايا إهمال الدولة المستقيلة منذ عقود, فهذه الدول والمجتمعات بشكلها الحالي لا تحترم نفسها ولا أجيالها ولا تليق بنا كبشر.

كثيراً ما نسمع تفسيرات لانحدار ظروف العيش تجعل الرجل الشرقي هو المدان ولكنه في واقع الأمر ضحية, فهو الذي سلبت دولته كل حقوقه الأساسية منه، ويمنح بالمقابل ميزة واحدة وهي حق استخدام العنف ومقابل هذا التوحش اللا منطقي للرجل داخل الأسرة يسلب كل شيء. هذا التمييز نقمة لا تخدمه. كم هو مظلوم مقارنة بالرجل في المجتمعات النامية والمتطورة فهناك له الحق بمطالبة الزوجة في أن تشاركه مادياً ومعنوياً في تحمل كافة الأعباء بما فيها عبء القرارات المصيرية. له الحق في أن يكون محبوباً مرغوباً ومحترماً بدل أن يكون الجاني والمجني عليه في الوقت ذاته.

وفي كثير من دول العالم الثالث وسوريا بالتحديد، استقالت الدولة منذ عقود وتركت مهمة تنظيم المجتمع وتربية الأجيال بعشوائية لدور البر والتقوى. والخطاب السياسي العام ما زال متوقفاً عند الصراع العلماني الإسلامي الذي هو في العمق صراع وهمي يمكن تجاوزه ببساطة عندما تتوفر دولة قادرة على تحمل مسؤولياتها محترمة مواطنيها.

الفرق كبير بين أن يكون لك حق عند الدولة تحصله دون عناء من مال الضرائب وبين أن يكون حقك صدقة تذلك وتقدم لك كزكاة من مال غني في وطنك .