ببساطة مطلقة، يمكن للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التخلّص من المشكلات والمطالبات التي لا تنضب ولا تنتهي عبر الذهاب إلى استحقاق الانتخابات العامّة، وإذا كان إعلان الإدارة عن إجراء الانتخابات المحلّية الشاملة خلال العام الجاري بعد إدخال تعديلات على وثيقة “العقد الاجتماعي” خطوة في الاتجاه المطلوب، فإنّه من المتوقّع أن نشهد بداية مرحلة جديدة حال انخراط الأفراد والأحزاب في العملية الانتخابية ودائماً وفق المقاييس الديمقراطية الحساسة لفكرة التداول والتعددية الحزبية وتكافؤ الفرص، رغم الذرائع التي قد يحتكم إليها المناوئون لتجربة الحكم الذاتي، أو الرافضون للحلول الديمقراطية التي لا تتضمّن الإشراك في السلطة عبر تقاسمها وتحويلها إلى مجرّد غنيمة تستوجب المحاصصة الرثّة.
غاية الأمر في كل ما يجري داخل سوريا هو أن تنتهي الأزمة إلى بداية عنوانها حكم صناديق الاقتراع، تكريساً لحرية الأفراد/المواطنين وحقهم في المشاركة السياسيّة، بعد القطيعة التاريخية المديدة مع كل ما يمت للحياة الديمقراطية وللسياسة باعتبارها “وعداً” في التقدّم والرفاه والمساواة، ولعل احتكام الإدارة لهذا الحل يمثّل الخطوة الأولى لإشراك الأفراد والكيانات السياسية في الحياة العامّة، ويخفف من فكرة احتكار السلطة وإمكانية توحّشها وفسادها، ولكن الأمر الذي يحمل نوايا حسنة ينطوي على الكثير من التفاصيل التي يجب أن تحضر وألّا تغيب عن الأذهان، وهي أن الانتخاب في معناه الأوسع يعني إفساح المجال للتنافس، وثقة الناس بالعملية السياسيّة، وبفكرة تداول السلطة والتناوب في تحمّل المسؤولية، وهذا يعني في باب ما، قبول الإدارة التنازل عن صلاحياتها الواسعة، مع أن التنازل لا يعني بالضرورة هزيمة فريقها الحاكم في الانتخابات بقدر ما يعني قبول تشكّل معارضة في مواجهتها. وهذا يعني، حال مضي الأمور على نحو سليم، إمكانية تخليص السياسة من الشعارات الشعبوية والانتقال إلى انتقاد السلطة أيّاً يكن حائزها، والحديث في البرامج لا الخُطب والمواعظ القومية والوطنية.
ليس أمام الإدارة الذاتية مروحة خيارات خارج فكرة السير في طريق الديمقراطية، لا الموارد المتواضعة المتاحة بمقدورها تأمين الرفاه كما في حالة الدول الخليجية إذا ما اعتبرنا أن الرفاه قد يخفف من غياب الديمقراطية، ولا إمكانية الاحتكام لخيار تطويع الناس بالإكراه لقوانين وقرارات صادرة عن بيروقراطيين أمر متاح على طول الخط، ولا حتى فكرة انتظار استتباب الأمور في سوريا حتى يصار إلى الخوض في الطريق الديمقراطي، وبالتالي فإنّ أولوية الديمقراطية، في شكلها الانتخابي على الأقل، يساعد الإدارة على البقاء والصمود ويقطع مع الذرائع التي تطاول “شرعية” الإدارة ووصمها على الدوام بأنّها “سلطة أمر واقع”، وإذا كانت الطريق الملكية للبقاء ومقاومة الظروف المحيطة تتمثّل في الذهاب إلى الانتخابات من الأسفل، أي انطلاقاً من انتخاب المجالس المحلّية وصولاً إلى انتخاب الهيئتين التشريعية والتنفيذية، فإنّ هذا التمرين على الديمقراطية يستصحب عداءً أشد لتجربة الإدارة، فالجوار التركي لن يكون سعيداً على الإطلاق بتحوّل الإدارة هذا وتمكين السوريين، شرق الفرات، من تولّي مقاليد حكم أنفسهم دون وصاية. بدوره النظام السوري، صانع الانتخابات الملفّقة والتعيينات من فوق، لن تسرّه تمارين الانتخابات لقسم من مواطني البلد. في حين ستتسبب الانتخابات في تعثّر الحوار الكردي الداخلي المبني على أساس فكرة تقاسم السلطة وتناهبها بين فريقين لا أكثر، رغم أن تأجيل الانتخابات يعني جعل الأكثرية من غير المعنيين بالحوار رهائن إلى حين إنجاز هذا الحوار، كما في أحوال العرب والسريان والكرد ممن لا تعنيهم المحاصصات الحزبية بقدر ما يعنيهم تحسّن أوضاعهم المعيشية والخدمية.
والأسئلة الجدّية المتصلة بقرار الإدارة في إجراء الانتخابات وتطويب هيئة الانتخابات مشرفاً على سير العملية الانتخابية مرتبطة بدرجة ما بتحقق عدّة مسائل: الأولى مدى جدية الإدارة وحزب الاتحاد الديمقراطي في اعتبار الانتخابات المساحة الأخيرة التي يمكن العمل في ظلّها، والثانية تكمن في التطمينات التي تمنحها الإدارة للناس لجهة شفافية الانتخابات وجدّيتها وقبولها للمختلف وتكريسها لثنائية (سلطة ومعارضة)، أما المستوى الثالث فيكمن في مستوى الحماسة الشعبية لفكرة انتخابات تُقيمها إدارة مستجدة في بلد لم يشهد منذ خمسينيات القرن الماضي انتخابات نزيهة.
لا ينبغي للانتخابات أن تشكّل تهديداً للإدارة طالما أن القوى الأمنية والعسكرية ستضيف إلى مسؤولياتها مهمّة حماية العقد الاجتماعي أو القانون الأساسي للإدارة، وبمعنى من المعاني سيفضي التنشيط السياسي عبر الانتخابات في حال تمتّعت بالنزاهة والشفافية والقبول الشعبي في حماية المدني للعسكري والعكس بالعكس، وطالما أن الانتخابات ستوسّع من طيف المشاركة السياسية في تطوير الإدارة فإن من شأن هذه المشاركة أن تخفف من تفشّي الفساد وغلواء الإيديولوجيا والأهم هو الإعلان عن شكل الإدارة الأخير، أي الإدارة المنتخبة، عوضاً عن سياسة التجريب الإداري والاعتباط في استصدار القرارات وعدم معرفة الجهة التي تصدر بعض القرارات.
يقودنا الخيال إلى التفاؤل بفكرة الاحتكام إلى الانتخابات على اعتباره الخيار الوحيد الذي ينتظر الإدارة، فيما يدفعنا الحذر من مضي الأمور إلى نهايتها المرجوّة إلى قراءة الواقع في شقّه الذاتي، أي ذاك المتعلّق بالإدارة الذاتية وفريقها الحالي وإمكانية قبوله بقواعد اللعبة الديمقراطية، والظرف الموضوعي في سوريا الذي يحول دون تشكّل كيان محلّي ديمقراطي يصلح لأن يكون تجربة ملهمة وقابلة للتعميم على بقية البلاد.
تبقى الانتخابات والديمقراطية بمعناها الواسع أحد الأقدار التي تنتظر السوريين، وإذا كان لا يمكن التنبؤ بالموعد الدقيق لتحقق ذلك؛ فإن المؤكّد أن السوريين سيبلغون هذه المرحلة، لا محالة، وإن بعد عشرات الأعوام. وعليه فإن استعجال الأمر في شمال وشرق سوريا يوفّر الوقت والجهد ويعطّل مشاريع محلّية وإقليمية ودولية تسعى إلى إبقاء السوريين خارج نادي الشعوب الديمقراطية.