العلاقات الإنسانية في الفضاء المهني هي مؤشر هام جداً في مجتمعات الدول المتطورة كون العمل والإنتاج أهم محور في الحياة. البطالة التي نعرفها بنسب عالية جداً في الدول النامية غير مقبولة في الغرب بل ارتفاعها مؤشر يطيح بحكومات إن ارتفع, إنها تشكل أزمات اجتماعية كبيرة، ورغم وجود موارد بديلة للمواطن في حال فقدان عمله في الدول الأوروبية إلا أن الحالة النفسية التي ترافق فقدان العمل تفرز أزمات اجتماعية كبيرة في مجتمع اعتاد أن يقيم الفرد حسب مكانته المهنية وفائدته للمجتمع.
الحياة المهنية في الغرب تأخذ أحياناً حيزاً أكبر من الحياة الأسرية وكثيراً ما نسمع في الغرب عن أناس يعيشون لعملهم فقط. من هنا ليس من المستغرب أن تعكس العلاقات بين افراد الشركة أو المصنع أو المتجر صورة حقيقية عن المجتمع ذاته. وفي هذا الصدد نلاحظ تغيرات كبيرة في المجتمعات الأوروبية، ففي فرنسا التي تحوي ستة ملايين فرنسي مسلم بات دخول الدين للفضاء المهني واقعاً يرصد عبر دراسات منذ أعوام، أهمها تلك التي تصدر سنوياً منذ عام 2012 عن مرصد المؤشرات للواقع الديني في سوق العمل, وهو يحصي التغيرات الحديثة في المجتمع بشكل موضوعي وعبر أبحاث ميدانية علمية.
ما تثبته تلك الدراسات هو أن هناك واقعاً جديداً في عالم العمل مثل ظهور طلبات موظفين لعطل دينية، وتتجاوز الطلبات سنوياً ما يعادل 29 بالمئة من الشركات التي ساهمت في البحث. وكذلك ظاهرة الصلاة في أوقات الغداء التي تصل لنسبة 12 بالمئة من المستجوبين, وحالات التمييز بسبب الدين التي كانت تعتبر متواجدة بنسبة 21 بالمئة من خلال ردود الذين استجوبوا في الدراسة.
الواقع الديني الجديد هذا بات يسبب إشكاليات إدارية لم تكن موجودة من قبل، ومن المشاكل التي تعتبر ضمن هذا الواقع الديني، تذكر الدراسات حالات عديدة كعدم مقدرة المدير للتصرف في حالة طلب الموظف الصلاة داخل المكتب وخلال أوقات العمل أو الحجاب أو رفض موظف العمل تحت إمرة امرأة معطياً حجة أن دينه لا يسمح له بهذا, أو الموظف الذي يقرر التبشير بدينه في مكان العمل وإقناع زملائه.
يعطي المرصد مؤشراته سنوياً عن المجتمع المهني منذ عام 2012, وكانت نسبة المديرين الذين يعتبرون أنهم يواجهون مشكلة دينية أو واقعاً دينياً آنذاك 44 بالمئة، لكنها تصل اليوم لنسبة 66 بالمئة.
من هنا يتساءل رئيس مرصد الواقع الديني، البروفيسور ليونيل هونوري، في دراسته التي قدمها الشهر الماضي لمعهد مونين للدراسات، عن أسباب هذا التطور لمسألة حضور الدين في مكان العمل ويرجح السبب لأهمية مكانة العمل في حياة الفرد كما ذكرنا سابقاً، كما يشير لتطلب الشركات أكثر فأكثر من الموظف الذي مطلوب منه الانغماس التام في العمل والتفاني، وطبعاً عندما تطلب الشركة من موظفيها أن يعيشوا للعمل كما هو الحال وأن يعطوا من ذاتهم فمن الطبيعي أن يتصرفوا كما في حياتهم الخاصة، والدين هو جزء من ذاتهم ولهذا فهو يحضر معهم للمكتب والعمل.
من جهة أخرى، نسمع من خلال انطباع المهاجرين المسلمين ممن وصلوا حديثاً لفرنسا عن عقبة حقيقية تواجه السيدات المحجبات وعن رفض الفضاء المهني لهن رغم كفاءات بعضهن, ففي القطاع الخاص هناك حرية تامة لرب العمل بقبول ورفض توظيف المحجبة ورغم وجود قوانين مناهضة للعنصرية تمنع التمييز حسب الانتماء والدين إلا أن رب العمل يستطيع أن يلجأ لبند العلمانية الذي يفرض منع المظاهر الدينية. والموضوع يشكل حقاً أزمة اجتماعية جديدة لم تعالج بعد.
وفي عمق الموضوع هناك تضارب ما بين قيم الجمهورية الفرنسية وقيم المجتمع الحديثة. ونعيش حالياً في فرنسا ردة دينية ليس فقط للمسلمين. وأما الإجابة عن أسباب ظهور هذا النوع من المشكلات منذ عدة أعوام في المجتمع الفرنسي هو أن المجتمع الفرنسي يمر بمرحلة تغيرات بل هو قيد التغيير.
وأن فرنسا ومعها أوروبا التي فيها مسلمون تحتاج أن تبني سياسات جديدة وارتباطات جديدة مع العالم العربي أو الإسلامي لكي تساهم بمكافحة التطرف بطريقة إيجابية. فرنسا لها تاريخ مشترك وحاضر مشترك مع المغرب العربي وبعض الدول المشرقية ولا تستطيع إلغاءه. لربما يتساءل البعض لماذا ظهر مسلمو فرنسا فجأة بمطالبهم في الشارع والعمل وخارج أسوار الحارات التي كانت مثل الغيتويات أحياناً يختفون بها ويعيشون حياتهم دون ضجيج؟
ولا بد أن نربط هذا الواقع بواقع مكافحة العنصرية وتخلي السياسات الأوروبية عن نهجها. وقد يرى البعض أنه لا مبرر لهكذا مطالب في المجتمع الأوروبي الذي أصبح في السنوات العشر الأخيرة أقل عنصرية وأكثر قبولاً للآخر, لقد شهدنا في فرنسا وزيرات من أصول مغاربية وأفريقية. لكن لربما المبرر هو أن العنصرية ما زالت موجودة أي ما زالت واقعاً. بالتالي ردة الفعل التي تنتهجها الجاليات الإسلامية من تشبث أحياناً يجب أن تفسر كنوع من إثبات الوجود وفيه طلب بالاعتراف من المجتمع الفرنسي. ولا بد من التذكير أنه ما زال الاعتراف غير مكتمل من قبل فرنسا بتنوعها وما زال هناك عمق عنصري وشبح يخيف الجميع بأن تتراجع فرنسا عن ما أعطته من سياسات تشاركية مع المهاجرين المستوطنين الذين لم يشعروا بالأمان ولا بالندية في كل مكان.
رغم هذا فرنسا تعد رائدة بين دول أوروبا ففي إسبانيا لم يظهر بعد وزير من أصل عربي أو مسلم، ذلك رغم أننا لم نر إلا نساء كما لو كانت هناك رسالة فرنسية واضحة للعالم المسلم الذي من جهته ما زال يرفض مشاركة نسائه جدياً وإنصافهن.