قضية سورية أم أزمة ملف لجوء أوروبي

هذا العالم المتحرك هو عالمنا اليوم في القرن الحادي والعشرين حيث يتحرك البشر فيه من مكان لآخر بديناميكية لم يسبق لها مثيل، كانت قد بلغت ذروتها قبل أزمة كوفيد-19 التي كان من معالمها تجميد الحركة البشرية بين القارات والدول.

 ومن أهم النظريات في موضوع الهجرة تلك التي قدمها منذ عام 1885 عالم الجغرافيا البريطاني رافنشتاين الذي قدم سبع قوانين للهجرة تؤكد أن أغلب النازحين يختارون غالباً بلاداً قريبة منهم جغرافياً، وكذلك بين كيف أن الهجرة تخص سكان الريف أكثر من سكان المدينة، وتنبأ محقاً بأن الهجرة ستزداد مع التطور التكنولوجي, وأكد كذلك رافنشتاين أنه رغم تنوع أسباب الهجرة يبقى العامل الاقتصادي هو الدافع الأهم, وأن قرار الهجرة هو قرار منطقي مدروس لدى المهاجر.

مجال الهجرة هذا يأخذ حيزاً كبيراً من اهتمام البحث العلمي والأكاديمي في الدول المتطورة لأن كثيراً من تلك الدول بنيت على الهجرة كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وبأسلوب آخر دول أوروبا أيضاً اهتمت بدراسة الهجرة, لأن المهاجرين عامل أساسي في التطور الاقتصادي والديمغرافي للقارة العجوز.

 اللاجئ في الغرب هو غالباً لاجئ اقتصادي قدم هارباً من الفقر في بلده أو طالباً للعلم، وكذلك هناك نسبة هجرة بنسبة أقل وهي هجرة المنفي سياسياً، ذلك حتى تاريخ اندلاع ثورات الربيع العربي كان عدد المنفيين السياسيين الهاربين من الديكتاتوريات قليل جداً بالنسبة للمهاجرين اقتصادياً أو طلاب الجامعات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, فمنذ الستينيات انتظمت الهجرة للغرب في مسار معين تم تغييره واختراقه في مرحلة نزوح السوريين التي شكلت سابقة في تاريخ البشرية.

 ومؤخراً، أدت الثورات والحروب التي شهدناها في سوريا واليمن وليبيا خلال فترة ما سمي بالربيع العربي لنزوح ملايين البشر أغلبهم من سوريا نحو دول أوروبا وتركيا ودول الجوار. حتماً لكون تلك الدول أقرب جغرافياً، وفيما يخص أوروبا لكونها الأكثر مقدرة اقتصادياً على استيعاب حاجات النازحين المعيشية بحد لائق.

لقد أحدث هذا النزوح الكبير للسوريين ثورة في تصنيفات المهاجرين فدمج الجميع في سلة واحدة ، فالسوري المهاجر هو مهاجر اقتصادي ومهاجر سياسي ومهاجر طالب علم في الوقت ذاته.

وقبل الثورات التي اندلعت في سوريا واليمن وليبيا، كان عدد المنفيين سياسياً قليلاً وكان الفارق واضحاً بين القادمين للعمل والمعارضين لأنظمتهم. كان المنفيون سياسياً على عكس القادمين للعمل لا يلمون شمل أسرهم ولا يزورون بلادهم ولا يبنون فيها بيوتاً كغيرهم, بل كثيراً ما كانوا مجردين من أملاكهم هناك وحتى من أحلامهم مع مرور الزمن .

بعض المعارضين الإيرانيين والسوريين كانوا في وضع محزن للغاية, كثيراً ما كانوا يموتون وحيدين في غربتهم فاقدي الأمل, فقبل الثورة كانوا ينتظرون الفرج منذ أربعين عاماً على الأقل. وكان المنفي إنساناً منعزلاً غريباً لا يعرف كثيرين مثله ولم يكن يعيش كالجاليات الأخرى التي رغم الهجرة تحافظ على علاقتها مع وطنها بسلام .

النزوح السوري الحديث والثورة أعطيا شرعية لسنوات المنفيين والهاربين من سجون الأسد، ولم يعد المنفي القديم وحيداً في أوروبا فأصبحت هناك جالية سورية، هي غير منظمة بالطبع ويوجد بين السوريين اختلاف حاد في المواقف, لكنهم في النهاية يأكلون من الأطباق ذاتها ولهم أذواق وهموم متشابهة. فهل ستشكل هذه الجالية في المستقبل البعيد قوة ضاغطة سياسياً في أوروبا لأحداث تغيير حقيقي في سوريا؟

هذا الأمر يبدو بعيد المنال لأن الجالية السورية منهمكة في المرحلة الأولى بهموم الاندماج والتأقلم. الهم الأكبر هو تعلم اللغة وإيجاد العمل والحصول على الجنسية لضمان استقرار وهوية بعدما نزع منهم الأسد أبسط حقوقهم الوطنية.

وكلما كان الوطن البديل أقرب جغرافياً تشابه مع سوريا أكثر، ولكن هذا التشابه ليس متاحاً في أوروبا، كما أن السوري ليس كالمغاربي والأفريقي فيما يخص معرفته باللغات، وذلك سبب لتأخر السوري في التأقلم وإيجاد عمل, هكذا هو الواقع السوري. واقع ليس له مثيل لكن “الموت مع الجماعة سهل”.

 وبعدما كانت الثورة السورية ثورة حقوق إنسان وديمقراطية على الأقل في نظر الغرب وخصوصاً الاتحاد الأوروبي تحولت بنظر الجميع لملف اسمه ملف اللاجئين السوريين، وأصبح يضاف لكلمة سوري لاجئ وتحولت الثورة لنكبة وكارثة إنسانية.

حل المشكلة السياسية التي كانت سبب هذا النزوح البشري لم تعد تعني أحداً، بل أصبح الملف السوري أوروبياً بامتياز, أقصى أهدافه حل النزاع القائم بين دول الاتحاد الأوروبي، نزاع حاد بين دول ترفض استقبال اللاجئين كبولونيا وهنغاريا ودول كاليونان وإيطاليا ومالطا تطالب بتمويل أوروبي إضافي لاستقبالهم وأخرى تحاول إدارة أزماتها الداخلية الناتجة عن عنصرية بعض سكانها.

كما لم يعد يعني أحد تحليل أسباب تفريغ سوريا من سكانها ويقر الجميع أن أوروبا لا يد لها في الملف السوري سياسياً وعسكرياً، وأما الدول المعنية بالصراع كروسيا والولايات المتحدة فهم لم يستقبلوا لاجئين سوريين, بل تدعم روسيا كافة أسباب نزوحهم وكذلك الولايات المتحدة تعتمد السلبية القاتلة تجاه سوريا.

أما سورياً فلا أحد معني بالنهاية، والكل معني بالقوت وطلب الهجرة ولو خيّر موالو الأسد اليوم بين البقاء أو الهجرة لأوروبا والحصول فيها على ميزات حصل عليها معارضون لاختاروا النزوح ولكن عقابهم ألأوروبي هو رفض لجوئهم.

لم تنتصر الثورة ويعتبر النظام وروسيا وإيران انتخاب الأسد نصراً, ولكنه حقاً نصر من كرتون لحكم بلاد بلا شعب أو لحكم شعب يحلم بأكمله بالنزوح. البعض يرى أن الموالين يستحقون العيش بندم لكونهم لم يقفوا مع الثورة وتركوها فريسة سهلة للمتسلقين والإسلاميين ولكن الشماتة ليست حلاً وطنياً مقنعاً ، كما أن اللجوء في هذه الظروف يبدو رحيلاً نهائياً واستيطاناً بلا عودة.