ماذا تبقى من مقاهي دمشق الثقافيَّة؟

دمشق – نورث برس

بعد أن كان يقضي معظم وقته في مقاهي باب توما بدمشق، غيَّر يحيى عبدالله (32عاماً) تلك العادة وتوجه نحو مقاهي ساروجة وسط دمشق.

وباتت مقاهي دمشق الثقافيَّة عبارة عن مشاريع تجارية في أغلبها، بعد أن كانت تؤسس لملتقيات فكريَّة، أدبية، سياسية وثقافيَّة، بحسب “عبدالله”.

وفي القرن التاسع عشر، انتشرت المقاهي في الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية في العاصمة دمشق، وكان معظمها يتمركز على ضفاف نهر بردى.

وتُجمع مصادر تاريخية على أن عدد المقاهي في دمشق تراوح في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بين 110 و120 مقهى.

ومن تلك المقاهي: “مقهى السكرية والقماحين واللذان يقعان في باب الجابية ومقهى العصرونية والرطل في باب توما وجاويش في القيمرية”، وغيرها الكثير، لم يبق منها إلا ثلاثة.

تخصيص

وتخصصت المقاهي، حينها، حسب زبائنها، فهناك مقاهي الحرفيين ومقاهي التجار، أما المقاهي التي كانت أكثر شهرة هي تلك التي كان يرتادها المثقفون والفنانون والأدباء والساسة وكانت كلها في الشوارع الرئيسية للعاصمة السورية.

وكان أصحاب المهن والحرف يقصدون مقاهٍ مخصصة، مثل مقهى النجارين في حي الشاغور، ومقهى الحمام لبائعي الطيور في سوق السنانية، ومقهى البخاري في سوق التبن للخبازين، ومقهى خاص بالعمال في السوق العتيق.

والمرتادين لتلك المقاهي كانوا يناقشون فيها أمور مهنهم وحياتهم. كما كان لأبناء المحافظات السورية من المقيمين في دمشق مقاه عرفت في ما بعد بأسمائهم.

وفي ذلك الوقت، خصصت مقاه للمثقفين والسياسيين في الشوارع الرئيسية للعاصمة السورية، مثل مقهى البرازيل وهافانا والروضة، بل كان هناك مقهى للصم والبكم عرف باسم “مقهى الخرسان”.

وفي تلك الفترة، كان الهدف من اللقاء في المقاهي على فنجان قهوة، هو تبادل الأحاديث الثقافية والفكرية التي كانت تدعو في أغلبها لبناء تيارات فكرية وسياسية.

وفي القرن العاشر الهجري، كانت دمشق من أوائل المدن التي عرفت القهوة، حتى صارت لها طقوس اجتماعية وتأسست لها محلات عامة تجارية لخدمة شرب القهوة، ويرجح أن ظهور المقاهي كان في النصف الأول من القرن الـ16.

للتسلية

ولكن بحسب “عبدالله”، تغير الهدف اليوم، “لصالح غايات أخرى أقصاها متابعة الفعاليات الرياضية واحتفالات أعياد الميلاد، ناهيك عن شرب الشاي والنرجيلة الاعتيادي.”

وقال أحمد الحسن (55 عاماً) وهو صاحب أحد مقاهي ساروجة، لنورث برس: “اليوم أغلب مرتادي المقاهي هم من فئة الشباب كطلاب الجامعات، ومحامين، وهواة كرة القدم.”

وأضاف، بأن، كل مقاهي ساروجة تتحول في فترة وجود دوري كرة القدم لصالات تجمع محبي تلك الرياضة في وقت تعاني أغلب مناطق دمشق من انقطاع للكهرباء.

ومع بداية الحراك الشعبي في سوريا عام 2011، تحولت منطقة ساروجة ومقاهيها “لمكان يتجمع فيه أغلب المعارضين لحكومة دمشق، بعد أن كانت مقاهي باب توما تحتضنهم.”

ومنذ ذلك الحين، انقسمت مقاهي دمشق بين “مقاهٍ للمؤيدين، وأخرى للمعارضين”، بعد أن كانت تجمع كل مرتاديها بغض النظر عن ميولهم السياسية. 

وقال تيسير الحسن، وهو اسم مستعار لمحامٍ يعمل في قضايا “الإرهاب”: “شهدت مقاهي ساروجة بين عامي 2014 و2015 اعتقال عدد كبير من الشباب الذي كان ينسق ويجتمع هنا لنقل ما يجري في دمشق وريفها من أحداث.”

لا ثقافة

وقال، محمد الناصر، وهو اسم مستعار لباحث تاريخي، “إنَّ مقاهي دمشق الثقافية تخلت عن دورها كتجمعات ثقافية لتتحول لمقاهي النرجيلة فقط. فتراجع دورها الثقافي وطغى الجانب الترفيهي عليها.”

وأرجع، الباحث المقيم في دمشق، سبب ذلك “لسيطرة حزب البعث على الحياة السياسية وقمعه لكل نشاطات فكرية أو ثقافية مناوئة له.”

وأضاف: “مقاهي دمشق اليوم، أضحت تجذب فئة الشباب لتناول المشروبات، ولم يعد لها أي دور في الحياة السياسية أو الثقافية المعدومة أساساً.”

وشدد، على أنه في فترة الخمسينات والستينات، اقتصر دخول تلك المقاهي على طبقة المثقفين دون غيرها، ونادراً ما كان يرتادها الشباب.

ويقول، حسن منصور (50 عاماً) وهو اسم مستعار لصاحب أحد المقاهي في دمشق، في حديث لنورث برس “لم يعد لدينا مقاهٍ دمشقية قديمة كما كانت عليه سابقاً.”

وعزا ذلك، للتطور الحاصل والتغييرات الاجتماعية وحتى السياسية، “اليوم، أضحت كل المقاهي تسعى للربح ولأن تكون تجارية بدلاً من سعيها لتكوين أو نشر الثقافة.”

إعداد: آرام عبدالله