في الأصل صُمم نظام حزب البعث “الانقلابي” لأن يكون نظام استفتاءات، لا انتخابات، ذلك أنه ينتمي إلى قماشة الأنظمة التي تستفتي رعيتها/مواطنيها بنعم أو لا على شخص الرئيس، أو بمعنى أدق تستفتي بنعم أو نعم؛ فالاستفتاءات التي وجدت استعمالها الأوّل، لغة وممارسة، في فرنسا عام 1800 وطوّبت نابليون الأوّل إمبراطوراً وقائداً للجيوش الفرنسية، ما لبثت أن تحوّلت إلى صيغة حكم راسخة في عديد من البلدان الفاشية والديكتاتورية على مختلف إيديولوجياتها بعد أن لفظتها كل الدول الديمقراطية، فيما كانت سوريا البادئة في انتهاج طريق الاستفتاءات التي افتتحها الانقلابي حسني الزعيم في العالم العربي، وبطبيعة الحال كانت نتيجة 99% ملازمة لاستفتاءات العسكريين، أو ورثتهم.
تبدو نتيجة انتخابات الرئاسة السورية، التي جرت يوم أمس، معروفةً سلفاً؛ فالفائز المعلن هو بشار الأسد، لتبقى مسألة نسبة الأصوات هي موضوع التندر القادم، بعد الطرفة الحكومية الرسمية حول تمديد مدّة الاقتراع لخمس ساعات نظراً للإقبال الشديد، وأن بعض المراكز طلبت إلى لجنة الانتخابات إسعافها بالصناديق الفارغة لأن ما في حوزتها امتلأ، وأمّا معرفة الفائز فلم يُبنَ على استبيانات تمثيليّة، أو تحليل أرقام، كما في حالة الدول الديمقراطية حين ترجّح مراكزها البحثية الفائز وفقاً لبيانات ومسوحات واستبيانات؛ إنما بني على معرفة لا يخامرها الشك بأحوال النظام وتفكيره ومسرحياته وتنكيله بكلمة “انتخابات” والتي باتت تعني استفتاءً مشوّهاً، وتمديداً صريحاً للأسد إلى الأبد.
الانتقال من “ديمقراطية” الاستفتاءات المبتذلة، إلى عوالم الانتخابات، لم تكلّف النظام السوريّ سوى القبول بمنافسين، بالكاد يعرفهما الجمهور، تعلّق صورهما إلى جوار صور “الرئيس”، إذ لا يكاد يتذكّر معظم السوريين مرشّحي انتخابات 2014، عدا السخرية الفظّة من الانتخابات الأمريكية التي تتفوّق السورية عنها كونها “أفضل بآلاف المرّات من الأمريكية” وفقاً لتصريح وزير الخارجيّة، فيصل المقداد.
لم تثنِ التصريحات الغربية، المنددة بالانتخابات، النظام وجموع مؤيديه عن الرقص والغناء وإطلاق الأعيرة الناريّة ونصب الخيم وتعليق الصور. والتنديد بالانتخابات هنا قرين التنديد بالجرائم والارتكابات، ذلك أنّ الانتخابات تعني تعطيل دور الأمم المتحدة في الإشراف على الانتخابات، وأنّها تعرقل التقدم باتجاه التسوية السياسيّة، وتبقي ملف انتهاكات حقوق الإنسان مفتوحاً، ولعل البيان المشترك الصادر عن خمس دول، أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، جاء واضحاً لجهة دعوتهم لعدم الاعتراف بشرعية الانتخابات، غير الآمنة والحيادية، والتي استثنت النازحين واللاجئين، والمعرقلة للتسوية السياسية المتمثّلة بقرار مجلس الأمن 2254.
ويضاف إلى الأسباب التي علّلت بها الدول الشاجبة ما يسمّى الانتخابات، حالة الرفض الشعبيّة على ضفّتي الفرات، الشرقيّة والغربيّة، ولئن كان موقف قوى المعارضة الوطنية وتلك الموالية لتركيا رافضاً للانتخابات، فإن موقف مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) الرافض ربط بين الانتخابات والحل السياسي بما يتضمّن الإفراج عن المعتقلين وعودة المهجّرين، والاعتراف بحقوق المكوّنات، وبتطابق هذا الموقف مع معظم المواقف الرافضة إجراء الانتخابات في هذا التوقيت وبهذا الشكل الذي ينمّ عن عناد واستهتار بالإرادات الوطنية الساعية إلى شكل معقول للحل.
وبمعزل عن حالة الرفض المعلنة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإن الشكوك قائمة حول مدى تقبّل سوريي مناطق سيطرة الحكومة لفكرة المشاركة العبثيّة، ذلك أن تاريخ الترهيب والترغيب يمثل أمامنا عبر فرض النظام على الموظّفين وطلبة الجامعات والجنود والعمّال الذهاب إلى مراكز الاقتراع بل واقتيادهم إليها في بعض الحالات، كما أنّ نظم المراقبة والتقارير الأمنية كفيلة بدفع الآلاف، داخل وخارج سوريا، للمشاركة في الانتخابات، ما يعني انتفاء الإرادة الحرّة المنتهكة أصلاً في مراكز الاقتراع حيث الاختيار علنيّ والرقابة مكثّفة.
من سابع المستحيلات إقامة انتخابات، حرّة ونزيهة وعادلة، قبل المضيّ في مسار الحل السياسي، ومعالجة أهم المشكلات الرئيسية والتي منها مسألة دستور 2012 الذي يمنح للرئيس صلاحيات لا متناهية، ونفوذاً مؤثّراً وحاسماً على انتخابات أصغر بلديّة في سوريا، فكيف والحال هذه أننا في صدد انتخابات الرئاسة يكون الخصم حكماً فيها؟ ما يعني انتفاء فكرة العدالة والمساواة بين الناخبين.
ما حصل البارحة، يراكم الأزمات أكثر ولا يمكن تصنيفه أبعد من كونه انتهاكاً آخر للديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنه سلوك عنيد يدعم حظوظ استدامة العنف واستمرار التدخل الخارجي، ويعني أن لا أفق لأي حل سياسيّ مهما كانت فرصه ضئيلة، وإذا كان متشددو المعارضة مسؤولين عن قسط من المشكلة فإن النظام بات يحمل مسؤولية بقية المشاكل إن لم نقل معظمها، ذلك أنه وبمعزل عن تجاوزه على إرادة السوريين ووضعهم على الدوام تحت الأمر الواقع، فإن ضريبة “العرس الديمقراطي” ستكون المزيد من العزلة المفروضة على النظام وشركائه وهي مقدّمة لاستثارة الأسرة الدولية مرّة أخرى، وربما أخيرة.
ثمة نُذر سخرية قادمة مفادها أن الرئيس السابق سيورّث لخلفه سوريا مهشّمة ومأزومة ومدمّرة ومحتلّة، وما على الرئيس اللاحق سوى أن يراكم أزماتها، على اعتباره الرئيس السابق واللاحق!