انبنى النفوذ الإقليمي الإيراني على عامل خارجي، وليس على قوة ذاتية. كان هذا العامل الخارجي متمثلاً في قوى شيعية موالية لطهران وجدت في بلدان عدة مثل حزب الله في لبنان أو القوى الشيعية العراقية أو حزب الوحدة الإسلامي في أفغانستان أو اقتربت من التشيع مثل الحركة الحوثية في اليمن، ثم انضاف لهؤلاء قوى فلسطينية إسلامية مثل حركتي حماس والجهاد جعلتا إيران فاعلاً رئيسياً في الصراع مع إسرائيل. وعملياً، شاهدنا كيف كانت عملية صعود النفوذ الإقليمي الإيراني بدءاً من العراق المغزو والمحتل عام 2003 وصولاً إلى سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بين يومي العاشر والخامس عشر حزيران/ يونيو 2007 ثم بدء سيطرة حزب الله على الحياة السياسية اللبنانية عبر حركة السابع من أيار/ مايو 2008 وانتهاءً بسيطرة الحوثيين على صنعاء في الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2014.
وفي هذا الصدد، استخدمت طهران أوراقها الإقليمية التي امتلكتها في هذه العاصمة أو تلك للضغط والتأثير في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني والتي جرت مع واشنطن بين عامي 2009و 2015، وهناك اعتبارات كثيرة تدفع المرء للقول بأن اتفاق (5+1) الموقع عليه في الرابع عشر من تموز/ يوليو 2015 هو مقايضة أميركية- إيرانية غض فيها باراك أوباما النظر عن تمدد إيران في الإقليم واعترف بنفوذها فيه مقابل تفكيك طهران لبرنامجها النووي. أيضاً، ربما ، بل على الأرجح، جاءت هذه المقايضة من اتجاه أميركي برز بعد ضرب برجي نيويورك في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 نحو أخذ موقف سلبي مضاد من الإسلام السياسي السني (ولو مع تعاون أميركي مع الحركة الأصولية الإسلامية الاخوانية بين عامي 2011و2013 كان استثناءً في هذا السياق) واتخاذ موقف تعاوني مع الإسلام السياسي الشيعي رأينا أبرز تجلياته عام 2003 من خلال تعاون واشنطن مع طهران والقوى الشيعية العراقية الموالية لها ضد نظام صدام حسين عام 2003، فيما وقف الأميركان متفرجين في آذار/ مارس 1991 عندما قمع صدام حسين تلك القوى الشيعية بعد قليل من هزيمته في الكويت. يمكن هنا القول بأن عام 2003 العراقي قد شهد بداية دور الحركات الشيعية الإسلامية في (الرقصة الأميركية) وانتهاء دور الحركات السنية الإسلامية في تلك الرقصة التي كان أبرز تجلياتها في أفغانستان الثمانينيات ضد السوفيات .
إذا نظرنا للوراء، هنا وفق ما سبق، يمكن القول بأن ولادة الدور الإقليمي الإيراني قد أتت من بغداد- غزة- بيروت- صنعاء، وليست من طهران، هذه الولادة التي أدت إلى تحول إيران في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلى الدولة الإقليمية العظمى في الشرق الأوسط . إصرار واشنطن على خطب ود إيران في أفغانستان 2001 وعراق 2003-2005 ثم في عراق 2014-2016 وانتهاءً بخطب ود طهران من قبل جو بايدن وإدارته الجديدة، ينبع كله من هذا التوجه الأميركي نحو نبذ الإسلام السياسي السني والتعاون مع الإسلام السياسي الشيعي.
إذا قارنا بين علي الخامنئي وجمال عبد الناصر، فإن نفوذ عبدالناصر الإقليمي قد تشكل في القاهرة ومن القاهرة في أعوام 1955-1956 ثم امتد هذا النفوذ إلى سوريا 1958-1961 والأردن 1957 وعراق 1958و1963-1968 ولبنان 1958 ويمن1962- 1970،ولم تتشكل القوة المصرية الإقليمية من امتداداتها الخارجية بل تشكلت من وزن القاهرة ووزن عبدالناصر الذي عبر عن موجة قومية عروبية ومعادية للغرب الأوروبي وإسرائيل منذ حلف بغداد عام 1955 وصولاً إلى تأميم شركة قناة السويس في السادس والعشرين من تموز/ يوليو 1956 ثم في وقوفه ضد ثالوث لندن- باريس- تل أبيب في حرب السويس خريف العام 1956. بعد هذا التشكل للوزن المصري في القاهرة جرى امتداد النفوذ المصري إلى الإقليم. عند الخامنئي هناك عملية معاكسة تجعله أضعف من عبدالناصر.
من هنا يأتي المأزق الإيراني، بل ويمكننا القول إن الداخل الإيراني هو قوة عكسية تعاكسية للعملية الإقليمية الإيرانية التمددية، وهو ما رأيناه في حركة احتجاج صيف 2009 التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الإيرانية، عندما طُرح شعار “إيران أولاً وليس غزة أو بيروت”، وهو ما مثل يومذاك ومازال يمثل أكثرية الشارع الإيراني الذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة بفعل الحصار الخارجي ويريد لتلك الأموال الإيرانية التي تصرف على الحركات الموالية لطهران أن تصرف على الأرض الإيرانية، وهناك تعاكس بين الحاكم والشارع في إيران بهذا الصدد وخاصة عند الفئات المتعلمة والشابة من الجنسين وفي المدن الإيرانية الكبرى بخلاف الريف والمدن الصغيرة التي مازالت قاعدة السلطة الايرانية قوية فيهما.
وفي هذا الصدد تعاني السلطة الإيرانية من نقاط ضعف كبيرة حتى وهي في وضعية القوة الإقليمية العظمى.. الفرس هم الأقلية الكبرى في إيران وليسوا أكثرية، وشئنا أو أبينا هناك توحد بين المشروع القومي الفارسي والإسلام الشيعي الإيراني. إيران تعاني من مشكلات قومية قابلة للانفجار، وقد رأينا انفجارها في الأشهر التي أعقبت وصول الخميني للسلطة في الحادي عشر من شباط/ فبراير 1979 عند الأكراد والعرب والآذربيجانيين، وهي مرشحة للانفجار في حال أي ضعف في السلطة المركزية بطهران. من جهة أخرى الفرس هم أقلية صغرى في إقليم الشرق الأوسط، ومن الصعب أن يستمروا في وضعية القوة الإقليمية العظمى. كذلك الشيعة هم أقلية أمام السنة الذين يبلغون 1,687,431 مليار من مجموع عدد المسلمين البالغ 1,893,345 مليار. (the world almanac and book of facts2020,NEWYORK,p.698) وهذه أرقام تموز2019، والشيعة وفق المصدر نفسه لا يتجاوزون 189,698 مليون.
على الأرجح، إن بحث طهران عن تلاقي مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وقبولها المتحمس لعودة حركة حماس للتصالح معها رغم الخلافات حول الأزمة السورية، يعكسان هذا الضعف والمأزق الإيرانيين.