لم يكد حبر القرار الذي أصدرته الإدارة الذاتية القاضي برفع أسعار الوقود يجفّ، والذي حمل الرقم 119، حتى تبعه قرار يقضي بالعدول عنه وإلغائه، بيد أن اليوم الذي تخلّل إصدار القرار بدا طويلاً لشدّة ما شهده من أحداث، ذلك أنّ وسائل التعبير عن رفض القرار تنوّعت، وتوزّعت على العالم الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى أرض الواقع من خلال الإضرابات والاحتجاجات السلميّة، وإن تخلّل بعضها شغب معطوف على غايات خارج قوس الاحتجاج السلميّ وأهدافه، وهو أمرٌ مفهوم في سياق الاضطراب الذي خلّفته داعش في بعض المناطق والدعاية الخارجيّة الموجّهة ضد الإدارة الذاتية.
سبق للإدارة أن تراجعت عن قرارات مماثلة وإن كانت أقل إثارة للرأي العام، كالقرار القاضي بإدارة أملاك الغائبين، والقرارات التي حدّدت أسعاراً قليلة لشراء مادة القمح من المزارعين في المواسم السابقة، ما يعني أن تراجع الإدارة لا يمثّل حالة غير مسبوقة، وعليه فإنّ الترجيحات التي ذهبت إلى احتمال تراجع الإدارة عن قرارها الأخير كانت مبنيّة على حالات تراجع سابقة.
والأهم على الإطلاق، في سياق تفسير التراجع عن قرار رفع أسعار الوقودـ كان أنّ التراجع عزّز من فرضيّة قيام شراكة أو ما يمكن تسميته “تعاقد” غير معلن بين المحتجّين/ المجتمع من جهة والسلطة/الإدارة الذاتية من جهة أخرى، أو بكلمات أخرى: رسخّت الأزمة العابرة ما يمكن تسميته دور “السلطة الشعبية” التي لا تتحرّك وفق أجندات حزبيّة إنما وفق مصالحها، كما طوّبت الإدارة طرفاً ممثّلاً لقسم من المواطنين بعد أن تبدّت خصماً مطلع الأمر.
لكن ما الذي جعل الحدث على هذا القدر من الأهميةـ ويتجاوز الاتجاهات والأحزاب السياسية، ويأخذ منحى التحرّك الشعبي العفوي، وهل كان بالإمكان تجنّب الأمر؟
بدايةً لا بد من التركيز على الآلية التي تتخذُ فيها القرارات، والتمييز بين القرارات التي تخصّ الإدارة وجهازها البيروقراطي، وتلك التي تخص أحوال الأفراد ومعيشتهم ومستقبلهم، إذ أن القرارات التي تنظّم عمل الإدارة لا تستصحب أدنى مشاكل أو اعتراضات مفتوحة، فيما تكون القرارات الواجبة التطبيق أو النفاذ على فئات عريضة من المجتمع هي الأكثر إثارة للحساسية، كالقرارات المتصلة بارتفاع الأسعار أو المتسببة في الغلاء وهو الأمر الذي يتطلّب وجود هيئة تشريعية تسطّر القوانين، ذلك أن أبرز المشاكل هو غياب تمثيل المواطنين في الهيئات المنتخبة، وهذا يقودنا إلى تفسير أحد المشكلات التي تسببت في اندلاع الاحتجاجات وهو ضرورة إجراء انتخابات تمثيلية تحدد ممثّلي الشعب في شمال وشرق سوريا.
إلى ذلك تنوب النقابات والروابط والجمعيات بوصفها العدّة المنظّمة للمجتمع المدني، في كثير الحالات، عن المواطنين في تنفيذ الاحتجاجات، ورفض ما يمسّ بمصالح حلقات المجتمع المدني، وإذا كنا في سياق قرار رفع أسعار الوقود كان لنا أن نتخيّل الاحتجاجات وهي تقاد من قبل نقابيين متضرّرين من القرار وهم يحتجوّن ويفاوضون السلطات باسم مصالح أعضاء جماعاتهم المدنية، ولعل غياب هذا الشكل المنظّم للمجتمع المدني ودوره المطلبيّ يؤثّر في درجة ما على الإدارة الذاتية نفسها، ذلك أنّها ستبقى في مواجهة الشارع بدل أن تتفاوض مع من يمثّله.
وفي ظل غياب الانتخابات التمثيلية والنقابات بوصفها أدوات الاستقرار الرئيسة التي تمنح السلطة هامشاً أوسع لاستصدار القرارات والقوانين، كان حرياً بالإدارة على سبيل المثال طرح مسوّدة القرار المُلغى (119) للنقاش المجتمعي وتحسس ردّة الفعل الشعبية قبل أن تطرحه على الملأ، ولعل وسيلة النقاش الأمثل تبقى المنصّات الإعلامية بوصفها الوسيط بين السلطة والشعب.
وبالعودة إلى جوهر المشكلة وهي محاولة رفع أسعار الوقود يجدر التذكير بجملة من المسائل، حيث بدّد الواقع السياسيّ المحيط بالإدارة الذاتيّة كل أمل في الاستفادة من الموارد المتاحة على نحو أمثل، والحديث هنا عن العملية الزراعية المتراجعة وعمليات إنتاج النفط وبيعه والتي هي دون المأمول، غير أن الأهم تمثّل في غياب المساعدات الغربية والعربية التي كان من المتوقّع أن تشكّل رافعة اقتصادية للمنطقة وتزويدها بالأموال اللازمة لتنشيط البنى التحتية ومدّ الإدارة “المحاصرة” بنسغ الحياة،لا سيّما وأنها شكّلت اليد الضاربة في محاربة داعش، ولعل ضعف الخيارات دفع الإدارة إلى البحث عن موارد إضافيّة تتعكّز عليها وهو ما تسبّب في فرض القرار 119 رغم ما يحويه من تهديد لتراجع الدعم الشعبي للإدارة، حتى من قبل أولئك الذين يشكّلون القاعدة الصلبة لمشروعها بما في ذلك الموظّفين والأحزاب المقرّبة من الإدارة أو المنخرطة في مشروعها.
الاحتفاء الذي حصل في اليومين الماضيين انصبّ على إلغاء القرار وصدور آخر يحترم إرادة الشعب ويستجيب لاعتراضهم وبسرعة قياسيّة، وهو الدرس الأهم الذي الذي دار في الساعات القليلة التي فصلت بين القرارين، ولكن لا يخفى أيضاً وجود تحفّز وخشية من أن تعدّل الإدارة القرار 123 الذي أعاد الأسعار إلى حيث يريح الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل ممن يمثلون السواد الأعظم من سكان المنطقة، وهي خشية معطوفة على طبيعة وآليات استصدار بعض القرارات التي يكتنفها الغموض وينتابها الاعتباط والاستعجال.
وفي مجمل الأحوال، خلّفت الساعات الفاصلة بين قراري الإدارة دروساً يمكن الاستفادة منها، وتلخيصها على النحو التالي: ليس أمام الإدارة إلا الانحياز التام لمصالح المجتمع وخصوصاً الطبقات الفقيرة ومتوسطي الدخل، وأن حركة الاحتجاجات الواعية ومحددة الهدف يمكن أن تصحح مثالب وأخطاء الإدارة، وأن الاحتكام إلى قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” في التعاطي مع الأزمات كفيل بالحفاظ على الاستقرار وعلى الحدود الدنيا لمبادئ العدالة الاجتماعية.