هل يحق لنا أن نقول القدس عروس عروبتنا؟
إن اعتبار القدس ملكية لكل عربي كما يردد الكثيرين منذ خمسين عاماً فيه تعدٍّ على حقوق الفلسطينيين وفيه نكران للهوية الفلسطينية التعددية والتي تحتاج جدياً لأن يكون لها سيادة خاصة بها .. من جهة أخرى في مقولة “القدس عروس عروبتنا” باب مفتوح لكي تكون هناك عرائس أخريات للعروبة .. عرائس لا تريد بالضرورة أن تكون عرائس العروبة, ثم إن مفهوم العروبة و الانتماء العربي كما يعيشه العرب في كل دولة لا تعني التدخل في سيادة الدول الأخرى الأعضاء في الجامعة العربية, والدليل أن لكل دولة توجه وقرار منفرد ووجود قانوني سيادي مكرس في الأمم المتحدة ولا أحد يريد لعاصمته أن تكون عروسة لكل العرب .
ورغم أحلام عبد الناصر والبعثيين بعده بإلغاء سيادة الآخرين باسم العروبة بقيت الهوية العربية هوية ثقافية فقط، لا قانونية ولا سياسية.
وإن كنا نعتبر الاحتلال الإسرائيلي تعدياً وظلماً للفلسطينيين ونلجأ بهذا للأمم المتحدة وللقانون الدولي فإننا نقر جدياً بأن أي اعتداء أو تدخل لدولة في دولة أخرى اعتداءً مداناً قانونياً، حتى وإن كان باسم العروبة، ووفق هذا يعتبر اجتياح صدام حسين للكويت على سبيل المثال اعتداء وانتهاكاً لسيادة دولة الكويت من الناحية القانونية .
ويرفض كثيرون في العالم العربي سماع هذا الكلام مخونين من يقوله ولكن لا بد أن يعوا أنه بالتحديد بسبب الانتهاكات الني تعرض لها الفلسطينيون على يد الإسرائيليين أصبحت هناك قضية فلسطينية يكرسها القانون الدولي.
ولربما هناك إشكالية في الرؤية في الشرق الأوسط، هناك حيث تلتقي الحضارات وتتصارع القوى وتتزاحم الإيديولوجيات لتفرز لنا صوراً مختلفة عن الواقع ذاته. و لكن نلاحظ أن الكثير من الفلسطينيين ومن مناصري القضية الفلسطينية وكذلك من طرف الإسرائيليين ومناصريهم لم يتم أي تحديث بالمنظار الذي يقيمون به الأمور منذ خمسين عاماً. وبالتالي نحن اليوم بأمس حاجة لكي نوحّد الرؤى التي ينطلق منها كل طرف لكي نتمكن من إيجاد قيم إنسانية موحدة ينتهجها الجميع بهدف أن تنير طريق الحل.
أولاً لا بد أن نوضح الذي ينساه مناصرو القضية الفلسطينية في شوارع تونس والجزائر والقاهرة وباريس، هو أن هذه القضية هي فلسطينية بحتة ولا يجوز مصادرتها وتغيير اسمها وتمييعها تحت مسمى القضية العربية أو القضية الإسلامية. فلا يوجد قانونياً جواز سفر عربي أو اسلامي اي لا وجود قانوني لهذه التسميات العاطفية التي لا تطالب بها دول الجامعة العربية.
وتنظيم “داعش” هو المنظمة الوحيدة في العالم التي تتحدى القانون الدولي وتنتهك سيادات الدول التي تتواجد فيها باسم الإسلام و العروبة. وبالتالي مصادرة القضية الفلسطينية تحت هكذا رايات هو إجرام بحقها. في علم النفس يقال أن أغلب أسباب الانهيار النفسي تأتي من تفاقم التناقضات مع الذات والذين يعيشون في سلام مع ذاتهم ومع الآخرين يعرفون كم هو ضروري حل التناقضات وإيجاد مخارج شجاعة لها.
وإسرائيل بممارساتها اليوم تشكل أزمة كبيرة لأغلب ألأوربيين ولأغلب اليهود ولا يمكن لمفكر يهودي مهما كان مناصراً للمظلومية اليهودية ولانتمائه أن ينسجم مع ذاته وألا يعيش تناقضاً ما .
الشاب الإسرائيلي اليوم ليس بعقلية أبيه وجده ذاتها, أولئك الذين أتوا من بعيد بقرار أوروبي غربي ونفذوا برنامج بلفور للعام 1917 الذي كان بمثابة وعد بريطاني ليهود أوروبا بوطن يهودي. هذا الجد الإسرائيلي كان ابن عصره وعصره لم يكن إنسانياً ولا علمانياً حتى، ولكن الشاب الإسرائيلي اليوم لا ينتمي للعصر ذاته ولهذا هو حينما يمارس انتهاكات كما يفعل يكون ضمناً متناقضاً مع ذاته و قيمه عبر نكران حق الآخر, فالإسرائيلي اليوم هو ثقافياً وبالمحصلة ابن الحضارة الغربية العلمانية الحديثة, شاء أم أبى هو في خلفيته يتشارك معها القيم و مراحل التطور و بالتالي هناك أزمة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي. أزمة لن تحل إلا بالسلام و العدل.
ولكي نعي فارق الأجيال وواقع الصراع الفكري في صفوف الإسرائيليين يجب أن نطرح السؤال التالي عن نشوء دولة إسرائيل وعن المرحلة التاريخية للقرار في عام 1917 وحتى 1948 وأن نتساءل هل كانت بريطانيا يومها علمانية بالعمق؟ أي هل كان الغرب يومها يقبل بمشاركة المواطنة المتساوية ما بين اليهودي و المسيحي؟
لا طبعاً, و الدليل على هذا نجاح الفكر النازي بإقناع فئة لا بأس بها في أوروبا بإبادة اليهود الأوروبيين, ولم يكن هتلر وحيداً حين نفذ فكر وقيم عصره ببساطة.
وكانت فكرة إنشاء دولة إسرائيل بهذه الهمجية في القرن العشرين ساذجة جداً وفي قمة العنصرية, حيث كان فيها نكران تام لوجود السكان الفلسطينيين. ولم يكن السياسي الإنجليزي أو الغربي عموماً يعترف بإنسانية سكان فلسطين بتنوعهم, وكان رعايا الدولة العثمانية أينما تواجدوا أقل من بشر بنظر السيد بلفور آنذاك.
ومجرد التفكير باستيطان أناس وتغيير ديمغرافي للمنطقة بهذه الطريقة الهمجية كان فيه عبثية ونكران لأبسط قيم التعايش الممكنة بين الناس, وكذلك بالتوازي مع فكرة التخلص من يهود أوروبا، وإبعادهم بهذه الطريقة عن أوروبا المسيحية فيه في العمق بذور تفرقة عنصرية وتمييز لا يختلف بكثير عن فكرة هتلر بإبادتهم فالترحيل هو أيضاً قتل من نوع آخر.
وبأي حق يفكر أحدهم باقتلاع أناس من جذورهم فقط لدينهم؟ لا بد أن نذكر هنا أن اليهود موجودون في أوروبا منذ ألفين عام و بأنهم كانوا عرضة لمراحل طويلة للإبادات و الاضطهاد من قبل أخوتهم في الأوطان. فمثلاً لم يكن لهم الحق بتملك ألأرض و العقارات في أماكن كثيرة في أوروبا بسبب فتاوى من الكنيسة, لذا اتجهوا للعمل بالمال السائل أي البنوك. ومن أفضل أيام اليهود في أوروبا كان العصر الأموي في الأندلس. حيث لم .يمارس الخلفاء الأمويون العنصرية وكانت العقلية السلطوية لديهم تتميز بنشر قيم التسامح و تقبل الآخر.
لقد عانى يهود أوروبا كثيراً من التمييز في كل مكان من العالم و كذلك عانى يهود المشرق في مراحل عديدة ولم يكونوا مرتاحين في الدول الإسلامية كسائر الأقليات الدينية, فالإمبراطورية العثمانية كانت كما أوروبا تحكم رعاياها بفكر ديني عنصري ولم يكن ممكناً لغير مسلم في عالم المسلمين أن يتمتع بحقوق المسلم ذاتها.
ولا يوجد إنسان في العالم يترك مكاناً ولد فيه وعاش وأجداده فيه دون أسباب. فحين يهاجر السوري اليوم تاركاً سوريا وطنه الأصلي هو لا يفعل هذا حباً ببرد السويد وصقيعها، لكنه مجبر لأمنه ومستقبل حياة أولاده. كل الروايات التي تتحدث عن استيطان اليهود تشير لكون الذين استوطنوا في فلسطين لم يكونوا من المرتاحين مادياً بل رحلوا لأسباب مادية وأمنية وأما أغنياء اليهود فبقوا في أوروبا رغم إيمانهم بضرورة إنشاء دولة إسرائيل.
الدولة الإسرائيلية موجودة اليوم في هذا الشرق النازف بجوار كل الدول الحديثة المنشأ التي لم تختر حدودها. سايكس وبيكو رسما الخرائط بعبثية تماماً كوعد بلفور, هم أيضاً كانوا جاهلين بتنوع المنطقة وخصوصياتها وما من أحد من سكان دول سايكس بيكو استشير في رسم حدود بلاده الجديدة، وبالتالي كلنا مظلومون. وللأسف ما زال الناس في هذا الشرق يذبحون على اسم أبيهم وتسلب حقوقهم تحت مسميات عديدة.
في الواقع لا يمكننا أن نتحدث عن قضية أحد وننكر قضية الآخر وحقه. فالمسألة ليست فقط تواجد دولة في قوائم الأمم المتحدة وليست فقط هيئة حكومة لها تمثيل دبلوماسي رسمي معتمد دولياً بعلم ونشيد وطني وهويات تصدر وتنزع من أبنائها كما هو الحال في سوريا ومثلها العراق ولبنان، فكلها دول ذات سيادات في الأمم المتحدة .. لكن هل يملك سكانها وأبناء أرضها حقوقاً إنسانية أكثر مما يملكه الفلسطيني عملياً؟
يباد نصف مليون سوري ولا يستقيل الرئيس المفروض بالبوط العسكري بقرار خارجي ولا يملك السوري
حتى حق تسمية ما يحصل له بقضية, فما الفارق بين ما يعيشه المواطن الفلسطيني أو السوري؟
اليوم المعنيون بالقضية الفلسطينية والذين لهم مطالب محقة ومنطقية هم الفلسطينيون الذين تم إخراجهم من بيوتهم وأرضهم و كذلك عرب إسرائيل الذين لا يملكون حقوق الإسرائيليين ذاتها.
لكن القضية رغم أحقيتها تم تحويل مسارها منذ زمن بعيد وليس من مصالح القوى المتصارعة في هذا الشرق حلها وربما لهذا قتل رابين وعرفات عندما جربوا تحدي العالم وفتح أبواب السلام, لقد تم امتطائها واستعمالها لمصالح القوى العظمى, فكانت القضية الفلسطينية حصان السوفييت في الحرب الباردة واليوم هي حصان المد الصيني والإيراني وكل هذا محلياً يحمل أسامي مختلفة، في عهد السوفييت أصبحت القضية الفلسطينية اسمها القضية العربية فارضين بها موقفاً سوفييتياً على كل ناطق بالعربية وأما اليوم فها هو محور الصين وإيران وجدوا لها حصاناً جديداً اسمه الدين الإسلامي, البريء الذي يبدو أسهل تعبئة لخوض الحروب.