دمشق – نورث برس
أخذ السجن حصة من سنين عمره، لكنه بعد تحرره من قيوده فضل البقاء في البلد. “يمكن أن تسميني ابن البرية، فقد ولدت في بيت مفتوح على برية تمتد حتى البحر في ريف اللاذقية، هناك عشت ردحاً من عمري.”
تشغله السياسة لأنه يعتبرها خبز حياته وملحها، ولأنها “مصيرنا وحاضرنا ومستقبلنا”، أما العمل السياسي، بمعنى الأحزاب والتنظيمات والتجمعات فلا تشدّه.
“أنا لا أصلح لها”، يقول إن قضايا الثقافة والفكر تشغله أكثر، وتلك الأمور التي يتشارك بها البشر.
تصالح مع الماضي
يقول “ابن البرية” إنه مرّ بتجربة السجن مرتين، ولكنه ليس سياسياً بالمعنى المباشر للكلمة.
لا تتغير نبرة حديثه مهما كان نوع القصص التي يرويها عن حياته، فهو متصالح مع تاريخه الذي حمل الكثير من المعاناة والتعب.
ولا ينظر إلى الحياة من زاوية نصف الكأس الملآن والنصف الآخر الفارغ، بل يرى نفسه مزيجاً من الواقعية التي تصل حد الفجاجة أو المرارة، والحلم الذي يصل حد الرومانسية.
دخل السجن للمرة الأولى في العام 1991واستمرت تجربته فيه نحو تسع سنوات بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، لكنه خرج منه في العام 2000 مجرداً من حقوقه المدنية والسياسية لما يزيد على ثماني سنوات.
أما الثانية فاستمرت نحو ثلاثة أشهر وجاءت بعد نحو 16 عاماً بعد خروجه المرة الأولى.
يصف التجربة الثانية بأنها الأقسى. فقد عاد بعد خروجه الأول إلى نوع من الحياة العادية، وكأنها حلقة جديدة في مسلسل انقطع عرضه فترة طويلة لصالح ما يسميه “فيلم أميركي طويل”.
يصف تجربته كمحاكاة ساخرة لمسرحية زياد الرحباني التي تحمل هذا العنوان، لكن الفيلم الذي كان أحد شخوصه لم يكن أميركياً، بل محلياً بامتياز.
عاد “ابن البرية” إلى الجامعة وتزوج من الشابة التي كانت تنتظره حال خروجه من السجن، وأنجبا ولدين.
وسرعان ما أخذته الحياة والعمل، فاستثمر اللغة الإنكليزية التي تمّكن منها في سنوات السجن ليعمل في مجال الترجمة، وينتج أكثر من 20 كتاباً ما بين ترجمة وترجمة مشتركة وتدقيق.
“هنالك وجه آخر لكل حكاية أو تجربة لأن الألوان ليست أبيض وأسود فقط، والعبرة ليست في القصة التي يعيشها المرء، بل في كيفية التفاعل معها.”
الصراصير في مكانها الطبيعي
تجربة السجن، كما يقول، يمرّ بها آلاف أو ملايين البشر، وربما جميع البشر، كالزواج مثلاً، لكنهم يعبرونها ويعبّرون عنها بطرق مختلفة.
لا يتحدث كثيراً عن الجوانب السلبية من حياة السجن، فقد قيل الكثير في هذا المجال، ويرى أن سنوات السجن الطويلة كانت فرصة للتأمل في مصائر البشر في الظروف الاستثنائية.
في عالم السجن الضيق التقى أشخاص من أعمار مختلفة، ومن بيئات اجتماعية مختلفة، ومن تجارب سياسية مختلفة، ومن قوميات وبلدان مختلفة، وهذا اللقاء عن قرب يعتبره “تجربة إنسانية عميقة”، كما كانت سنوات السجن فرصة للقراءة والتأمل والخيال وتعلم اللغة والترجمة.
وعندما يتحدث “ابن البرية” عن تجربته الثانية في السجن، لا تختلف نبرة صوته رغم كل السوء الذي يصف فيه تلك التجربة.
ويقول كانت الأشهر الثلاثة أصعب من السنوات التسعة التي أمضاها في المرة الأولى، فكل شيء مختلف، الأشخاص والظروف والعمر والمعنى.
خسر الكثير من وزنه في هذه المرة، وكان أشبه برجل عجوز عند خروجه، إذ لم يكن يأكل إلا ما يبقيه على قيد الحياة فقط، بسبب سوء الطعام من جهة، ولتجنب استخدام دورات المياه قدر الإمكان، ليرحم نفسه من بعض الإهانات والإذلال.
“هناك في المنفردات الكثير من الصراصير، كنت في البداية أقتل الصراصير، ولكن سرعان ما توقفت عن ذلك”، فقد اكتشف أن تلك الصراصير في مكانها الطبيعي، وأنهم هم الدخلاء على عالمها فأصبح يتركها وشأنها.
تفاصيل ومرارة وتعاف
ولأنه يعتمد البحث عن وجوه أخرى أكثر إيجابية، نسأله عن الوجه الآخر لتجربة سجنه الثانية؟ فيروي تفاصيل عن صعوبة النوم في تلك الأمكنة الضيقة، وكيف أنه وضع رأس فتى في حضنه طوال الليل حتى ينام.
وكيف أنه قدّم مخصصاته من الخبز والطعام لفتى صغير السن شاركه الزنزانة، ليأكل حتى الشبع للمرة الأولى منذ دخوله السجن.
عندما خرج من السجن، أمضى شهرين حتى تعافى صحياً، كانت عروض السفر التي تلقاها كثيرة، إلى جانب الضغوط الكبيرة من أجل الهجرة والرحيل عن بلدٍ سجنه مرتين بعمر يقل عن الخمسين عاماً.
لكنه لم يستطع، كما يقول، لأنه سيكون غريباً في المكان، ولا يستطيع العيش في مكان لا ينتمي إليه، صحيح أنه سيحصل على كل مقومات الحياة، “لكن شعور عدم الانتماء للمكان سيرافقني.”
من جانب آخر يتحدث “ابن البرية” عن طفولة قاسية في أسرة حملت كل تناقضات حقبة زمنية معقدة جداً.
ويتحدث عن حبه للطبيعة، ويصفها بعالمه الداخلي الذي ينتمي إليه، “كنت أسافر مع أرتال الحوم التي تعبر سمائي. كان حلمي أن أترك ذلك العالم إلى عالم آخر.”
وعندما غادر تلك البرية صار يحلم بالعودة إليها، لأنها امتداد له وهو امتداد لها، “ومع ذلك حين أعود، أشعر بالغربة. هكذا هي الحياة كتلة معقدة من التناقضات والمفارقات.”