الحجاب قضية رأي عام

قبل الثورة الإيرانية عام 1979، لم يكن غطاء الشعر معمماً في شوارع وجامعات طهران، ولم يكن يعتبر الحجاب والملاية من اللباس التقليدي المألوف للمرأة في المدينة، بل كانت أزياء النساء عصرية بحرية، ولكن في الوقت ذاته وبتعايش تام مع الغير كانت الملاية أو غطاء الشعر من العادات والتقاليد الثقافية في بعض الأوساط الشعبية وفي القرى، وكذلك الحال كان في سوريا وفي دول كثيرة قبل الثورة الإيرانية.

لكن منذ الثمانينيات وبالتزامن مع انتصار الثورة الإيرانية، بدأت مظاهر غطاء الشعر تظهر في سوريا وكذلك في الكثير من الشوارع العربية, وظهر الحجاب الشرعي وأصبح يرمز في سوريا والعالم العربي لانتماء إسلامي اجتماعي جديد، مظهر الغطاء تغير وأصبح لباساً موحداً للنساء تدريجياً.

ولربما كانت الانطلاقة الحقيقية للربيع العربي بنظر جماعة الإخوان المسلمين داخلياً من طهران وليست من تونس, فالجماعة الإخوانية هي ممن ساهم وساعد في الثورة الإيرانية باعتراف موثق من حكومة الملالي التي قلبت الحكم الملكي وغيرت شكل الدولة الإيرانية، وهي تعد عملياً الثورة الأولى من نوعها في العالم الثالث لكونها ثورة داخلية وليست كثورات التحرر من الاستعمار الأجنبي.

 لا بد من التذكير هنا أن هذه الثورة الشعبية الإيرانية قامت على أساس خديعة للشعب من قبل القيادة الاسلامية, الخديعة كانت أولاً للنساء الإيرانيات اللواتي لم يكنّ يعلمن أنهن سيُسلبن أبسط حقوقهن باسم الدين والثورة. وثانياً كانت الخديعة لكل علماني شارك في الثورة من التقدميين الذين تم اعدامهم باسم الدين الإسلامي فيما بعد .وهنا لا بد من إنصاف الشعب الإيراني وتبرئته مما حصل، فقد أخذه الملالي رهينة ولم يكن مشروعه الوطني جمهورية إسلامية .

وقبل هذا النصر المعلن للإسلام السياسي في إيران كان اللباس عصرياً في شوارع العالم العربي والمشرقي, بل كان سفور النساء يعتبر تمدناً وثورة عن الفكر التقليدي الشعبي الذي كان يُنظر إليه في مرحلة النهضة على أنه من مخلفات الاستبداد العثماني كما وصف الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر حين رد بخطابه عام 1958 على “الهضيبي” المرشد العام للإخوان المسلمين: “أتريد أن تعيدنا لعهد الحاكم بأمر الله”، وكان قد طلب منه تحجيب نساء مصر.

تحرر المرأة وطرح فكرة المساواة معها ومع الآخرين من الأقليات واحترام الحقوق الأساسية للإنسان واعتماد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان, كل هذا من الأفكار التي لا يمكن قبولها بنظر مفكري الإسلام السياسي وفقهائه شيعة وسنة, فهذا التفكير الحديث فيه رائحة خيانة للماضي. وأما الماضي فهو عهد الخلافة المقدس في أدبياتهم، وكلاهما إخوان وملالي مستميتان لاستعادة عصر الخلافة والرسالة بكافة طقوسها، وهذا رغم لاواقعية الأمر وكلفته على البشرية.

وفي الواقع فإن الملالي والإخوان متفقان كلياً رغم ظواهر الصراع بينهم في الثورة السورية، فالجانبان يخططان سوياً منذ البداية بتنسيق تام في سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، وما موت السوريين في الثورة ونكبتهم إلا من الأضرار الجانبية للوصول للغاية، والهدف لديهم هو إرضاخ الشارع السوري وإرغامه على قبول حكم الإسلام السياسي وما التأخر بإعلان النصر إلا لتلافي فشل المشروع، والفشل هو الذي واجهوه بمرارة في تونس ومصر.

واليوم، شعار النصر الإخواني في سوريا هو الحجاب، تماماً كما كان بالنسبة لملالي إيران بقيادة “الخميني”، أما لماذا هذه الرمزية بالذات دون غيرها, حيث كان بإمكانهم إعلان جمهورية إسلامية دون فرض ديكتاتوري للحجاب كما يحصل الآن؟

 استرتيجية الحجاب هي اختيار مدروس، بها يعلنون معارضتهم ظاهرياً وباطنياً لقيم الغرب التي تضع مكانة المرأة وتطوير حقوقها في المحور، أما تحجيب المرأة القسري فهو يعكس صورة واضحة عن المجتمع النموذجي المنشود بنظرهم, وبهذا هم يعلنون التحدي لعدوهم الغربي الديمقراطي وقيمه المختلفة العصرية.

 وعلى الصعيد الدولي، لم تتخذ مواقف حاسمة في مسألة فرض الحجاب على المرأة ولم تظهر بسهولة رؤية واضحة، وهي كقضايا كثيرة قبلها ما زالت في مرحلة نضوج وتحتاج مزيداً من الوقت قبل التحول لقضية رأي عام.

ولربما تذكرنا قضية الحجاب القسري للمرأة بموضوع العنصرية سابقاً, والموقف الدولي منها, فعلى سبيل المثال عام 1960 لم تكن العنصرية مرفوضة اجتماعياً ولم تكن تشكل مشكلة بالنسبة للمجتمع الدولي, وكان الفكر الاستعماري هو السائد وبالتالي كان يُنظر للعنصرية كممارسة طبيعية، أي لم تكن جرماً للأوروبي اعتبار العربي أو الأفريقي إنساناً بدرجة أقل ولم يكن يعتبر استغلاله أو ممارسة التمييز ضده من الإجرام.

ولكن بعد هذا دخل موضوع العنصرية مجال الشأن العام والفكر ونتيجة نقاشات ودراسات وتوعية عامة، تحولت المسالة لقضية رأي عام وتحولت العنصرية لقضية قيم أساسية, وبعد هذا دخلت العنصرية حقل التشريع وأصبحت لها أسس ونظريات تقيد وتجرم محلياً ودولياً من يفكر ويتصرف بعنصرية مع غيره. قضايا كثيرة يتغير معناها وتأخذ أهميتها مع الوقت وتصبح محركاً لسياسات وقرارات محلية ودولية.

 والحجاب هو حتماً من ضمن تلك القضايا الإشكالية التي ستأخذ في الحقبة القادمة منحنى جديداً. حالياً هي فقط تقسم الرأي العام بين طرفيين من المفكرين. فبينما لا يرى البعض الموضوع أساسياً ويصنفه من القشور الثانوية، تماماً كما ينظر هذا لحقوق المرأة وللمساواة, هناك من يفكر العكس معتبراً احترام قرار المرأة بالتحكم بذاتها وحريتها قضية جوهرية، وهو بهذا مدرك لخطورة التساهل مع الأمر على تطور المجتمعات. وبالتالي لا بد وأن تطرح القضية في المستقبل المنظور بجدية أكبر للنقاش العام. المسألة تدخل حقل القيم الأساسية العليا التي تنتج عن تبني قيم المساواة.

وسيكون هناك ضرورة لتقييد حرية خطاب الإسلام السياسي ورصد التجاوزات ومواكبة المجتمعات التي لا تعي ضرورة احترام المرأة وحرية المعتقد وحرية ممارسة العبادة وحرية الإلحاد. وبالتالي ستطرح قضية حرية المرأة ليس فقط برفض الحجاب الإلزامي بل سيفرض قانونياً حقها في التحرر والمساواة أيضاً. وهذا التيار التنويري بدأنا نشهد حضوره بشجاعة بفضل قادة وزعماء في أماكن عديدة يقال إنهم غير ديمقراطيين لكن هل ممكن مواجهة من لا يؤمن بالديمقراطية وبحقوق الانسان بديمقراطية ورفق؟

نحن منذ بداية ثورة الحريات نتوجه لمن يريد وأدنا بباقات زهور ومحبة راجين أن يتعقل لكنه يعتبر إنسانيتنا ضعفاً ويعتبر الديمقراطي ساذجاً.