ظاهرة جو بايدن

منذ الحرب العالمية الثانية لم تتبين ملامح سياسات الإدارات الأميركية في أشهر ثلاثة مثلما حصل مع إدارة جو بايدن: يمكن أن يعزى هذا إلى خبرة الرئيس الأميركي الجديد والطاقم الذي معه، ويمكن أن يكون لعب عامل آخر في ذلك، وهو إحساس عام في دوائر واشنطن المختلفة بأن السنوات الأربع لدونالد ترامب قد أضعفت مكانة الولايات المتحدة في خارطة العلاقات الدولية وساهمت في تقوية خصومها، وخاصة الصين وروسيا.

أمور عدة تلفت النظر إلى جو بايدن، منها أن إدارته كسرت قاعدة استمرت لسبعين عاماً، وهي أن الجمهوريين أقرب من الديمقراطيين إلى (مجمع الأمن القومي الأميركي)، أي وزارة الدفاع- البنتاغون والاستخبارات، وقد بدأ هذا عندما قام الرئيس الديمقراطي هاري ترومان في الحرب الكورية 1950-1953 بإقالة الجنرال ماك آرثر من قيادة القوات الأميركية،  لما خالف تعليمات القيادة السياسية في عمليات تلك الحرب، وقد أحدث ذلك دوياً كبيراً نظراً لمكانة الجنرال ماك آرثر في المجتمع الأميركي، وهو الذي استلم عام 1945ورقة استسلام اليابان، ما أنهى الحرب العالمية الثانية.

وأتى بعد ترومان رئيس جمهوري من خلفية عسكرية هو دوايت أيزنهاور ، وقد كان الجمهوريون ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وجورج بوش الأب والابن في انسجام مع (مجمع الأمن القومي الأميركي) أكثر من نظرائهم الديمقراطيين.

بدأ الشقاق بين الجمهوريين وهذا (المجمع) في عهد ترامب، الذي منعه البنتاغون في كانون الأول/ديسمبر 2018 وتشرين الأول/أكتوبر 2019 من تنفيذ ما أعلنه من قرارين بسحب القوات الأميركية من سوريا، ولم يكن البنتاغون راضياً عن اتفاق التاسع والعشرين من شباط/فبراير  2020 مع طالبان لسحب القوات الأميركية من أفغانستان بدءاً من مطلع أيار/مايو 2021، كما أنه لم يكن راضياً عن عدائية ترامب لحلف الأطلسي/الناتو ولاعن نزعته لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في الخارج، هذه النزعة التي أتت عند ترامب استمراراً ومتابعة لنزعة انعزالية أميركية “عن مشاكل العالم القديم” في دولة مهاجرين بدأت مع مبدأ مونرو عام  1823 ولم تنتهِ سوى عام 1917 مع الانخراط الأميركي في الحرب العالمية الأولى .

وعند بايدن، هناك تشارك ملفت مع (مجمع الأمن القومي) في رؤية كانت غائبة طوال ثلاثين عاماً في واشنطن منذ تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991عقب عامين من هزيمته في الحرب الباردة 1947-1989، وهي أن روسيا تمثل خطراً وتشكل مشروعاً لمنافس عالمي للولايات المتحدة مثل الصين التي هناك رؤية ثابتة في واشنطن منذ إدارة كلينتون 1993-2001 بأنها المنافس العالمي الأكبر للقطب الواحد الأميركي في عالم  ما بعد الحرب الباردة.

وهناك الآن في إدارة بايدن رؤية  بأن الصين وروسيا هما عدوان للولايات المتحدة، وهي رؤية جديدة بالقياس إلى ما كان في واشنطن منذ زيارة كيسنجر السرية للصين عام 1971 حيث في الخمسين عاماً الماضية كانت تتجه واشنطن لتقريب بكين من واشنطن للضغط على موسكو وهو ما استمر حتى عام 1989، ثم جرى الاتجاه لتقريب موسكو من واشنطن للضغط على بكين وهو ما ظهر بوضوح في عهدي باراك أوباما وترامب.

وهناك تشارك بين بايدن و(المجمع)في استمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا، وهناك تشارك بينهما نحو نقض أميركي للاتفاق مع طالبان من ناحية عدم الالتزام بسحب القوات الأميركية من أفغانستان المقرر بدؤه في الشهر القادم.

ينظر بايدن بقلق بالغ للتقارب الصيني مع موسكو الذي يكاد أن يصل منذ بدء الخلاف الصيني- السوفياتي عام 1960 إلى مستوى التحالف الذي كان بين موسكو وبكين بين عامي 1949و1960، وهو يخشى من أن تنضم ايران (وربما باكستان وتركيا) إلى هذا التحالف ،ما يمكن أن يخل بالتوازن العالمي. لذلك كانت مسارعته في الأسابيع الأخيرة نحو تليين الموقف الأميركي تجاه المفاوضات مع ايران بشأن برنامجها النووي بعد قليل من توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين الصين وإيران، الذي يتضمن استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار في إيران لـ25 عاماً في مجالات مختلفة، إضافة إلى إقامة “مرفأ صيني” في الأراضي الإيرانية بعد ربطه مع الصين بأوتوستراد وسكة حديد عبر باكستان، أسوة  بـ”مرفأين صينيين” في باكستان وميانمار، لكي تتفادى الصين المرور بمضيق مالاقا ،الرابط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي والذي تتحكم به قاعدة عسكرية أميركية في سنغافورة، وهو المضيق الذي تمر به 40% من التجارة العالمية.

ويأمل بايدن ،عبر كسب إيران، القيام بعزل الصين عن الشرق الأوسط ، والقيام عبر ذلك بإنشاء تعارض إيراني- روسي في منطقة الشرق الأوسط وفي منطقة آسيا الوسطى، وهو مستعد من أجل التقارب مع طهران أن يصل إلى حدود إغضاب حلفاء واشنطن في تل أبيب وأبوظبي والرياض، مادام هذا التقارب الأميركي-الإيراني  يساهم في فرط أي تحالف أو محور ثلاثي صيني- روسي- ايراني، وربما  يساهم في استعادة “المخفر الإيراني” للمنطقة الذي كان زمن كيسنجر- نيكسون في السبعينيات، وخاصة إن ساهم موت خامنئي في أحداث تداعيات في تركيبة السلطة الإيرانية شبيهة بما جرى بعد موت ليونيد بريجنيف في موسكو عام 1982،عندما ساهمت سياسة الوفاق السوفياتي- الأميركي في إحداث ميول في السلطة السوفياتية وفي المجتمع السوفياتي نحو الضغط باتجاهات جديدة في الكرملين نحو اليمين.

وكانت قمة بايدن في الثاني عشر من آذار/مارس مع قادة الهند واليابان وأستراليا طلقة المدفعية الأولى الأميركية ضد الصين. هناك ملامح كثيرة عن أن سوريا وأوكرانيا ستكون ميدانين كبيرين للصدام الذي ينويه بايدن مع بوتين . الانذار الأميركي للشركات الألمانية والأوروبية للتخلي عن مشروع (نورد ستريم2)،الذي كان مقرراً عبره جر الغاز الروسي تحت مياه البلطيق إلى ألمانيا، يدخل أيضاً في سياق تصادم البيت الأبيض مع الكرملين، وكذلك ترميم بايدن لعلاقات واشنطن مع دول الاتحاد الأوروبي ، التي تدهورت كثيراً في عهد ترامب.