12 آذار 2004 صفحات من دفاتر القسوة

حجز نظام البعث السوريّ في 12 آذار 2004 لنفسه مقعداً إلى جوار أنظمة قتل الكرد في العراق وإيران وتركيا، وكأن الروزمانة كانت تشير إلى شاغر لحدث كرديّ جلل في يوم الثاني عشر من آذار، ليملأه نظام البعث بجريمة غير مبرّرة، وكانت الأيام الدامية القليلة المتصلة بالحدث/الانتفاضة تذكّر بالسطور التي خطّها تشارلز ديكنز في روايته قصّة مدينتين: “كانت أحسن الأزمان وكانت أسوأ الأزمان. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان كلّ شيء أمامنا، ولم يكن أمامنا شيء”، كان زمن القتل بدمٍ بارد، لكنه كان أيضاً زمن التضامن ورفض منطق القتل ذاك.

يستوجب الاستذكار العودة إلى بداية الحدث، إلى مدرّجات الملعب البلدي في القامشلي حين علت هتافات تعجّ بالكراهية والاستفزاز في المباراة التي جمعت فريق الفتوة القادم من دير الزور، وفريق الجهاد صاحب الأرض. وضعت الهتافات في أفواه مشجّعي نادي الفتوة، مستهدفة استثارة مشاعر الكرد، هتافات تسخر وتشتم البارزاني والطالباني وتمجّد صدّام حسين، وتعالت الهتافات في حضرة الشرطة السورية إذ تعدّ ملاعب كرة القدم واحدة من المساحات الشعبية التي لا يغيب عنها الحضور الأمني والمخبرون، وفي ظل تلك الهتافات العنصرية برزت مشاجرة دشّنها الجمهور القادم إلى المدينة الكردية، ووفق روايات شهود عيان، ومقاطع فيديو سرّبت فيما بعد، كان جمهور الفتوة مدجّجاً بالأسلحة البيضاء والعصيّ والهراوات الأمر الذي زاد في اضطراب المشهد. أفضت المشاجرة إلى فوضى كادت أن تمضي لولا أن قامت قوات الأمن باستهداف المواطنين الكرد بالرصاص الحيّ ما أدى إلى سقوط ضحايا على الفور، لتتحوّل الأوضاع خلال بضع ساعات إلى حركة احتجاج كرديّة واسعة أحالتها طبيعتها العفويّة إلى انتفاضة عارمة سرعان ما امتدت إلى المدن الكردية الأخرى من ديرك القصية إلى عفرين مروراً بالأحياء الكردية في دمشق وحلب.

وعلى بعد كيلومترات كان العراق ملعباً للسياسات الأميركية الجديدة في المنطقة. ارتعد النظام السوري حين شاهد شقيقه العراقي يذوي وزاد في ذعره التهديدات الأميركية المتصلة بإمكانية تمدده غرباً، وكاد النظام السوري المرتاب أن يفقد أعصابه ليبدأ رحلة التضييق على الأميركان عبر شد عصب الإسلاميين ودعم “الجهاديين” لتتحوّل سوريا إلى قاعدة إسناد متقدّمة للجهاديين وبقايا البعثيين.

في إزاء جهود ضرب الاحتلال الأميركي في العراق بحث النظام عن “أعداء موضوعيين” في الداخل، وإذا كان النظام المرتاب يفتّش في خواصره الرخوة عن عدوّ هيّن فإنّه قد عثر على ضالته في الكرد، حيث قام بالترتيب لحملة تأديب مشفوعة بحملة دعاية أمنية تسعى إلى التحشيد الشعبي العربي بالضد من الكرد المشار إليهم بـ “الانفصاليين” و”عملاء أميركا”، ذلك أن الهاجس الأمني والارتياب اللذان أصابا دمشق جعلاها تشعر بقدرة  الكرد في التحوّل إلى “حصان طروادة” يمكن أن ينفذ من خلاله الأعداء إلى بلاد البعث الأخيرة و”قلب العروبة” المتعب، لذا كان لا بدّ من معركة استباقيّة تقطع شكّ النظام بيقينه؛ فجاء التدبير لفتنة عربية كردية مشفوعة بحملة تأديب واسعة كان من حصيلتها ما لا يقل عن ثلاثين قتيلاً، وأزيد من مئتي جريح، وأكثر من ألفي معتقل، فضلاً عن إطلاق العنان لحفلات التخريب والسلب والنهب التي اضطلعت بها حاشية النظام الشعبية للمحال والأحياء الكردية.

 وقف الكرد وحيدين إزاء قسوة مفتوحة الاحتمالات، إذ بدأ بالرصاص الحيّ وانتهى بالقمع السياسي وترهيب المجتمع الكرديّ، وفوق هذا وذاك انتهى الحال بالكرد إلى حالة شكّ وريبة متصلَين بمحيطهم العربي، وهشاشة مقولات التآخي على المستويين الشعبي والسياسي، ذلك أن النظام نجح في زرع بذور الشقاق؛ ففي مطلع انتفاضة الكرد أخرج النظام من أدراجه ملفّ تحشيد العرب في الجزيرة عبر توزيع الأسلحة الفردية من مخازن “الجيش الشعبي” والأفرع الأمنية، ودائماً عبر شعار حماية الدولة، كما وصف إعلام النظام دون أن يسمّي الكرد بالاسم بـ”المخرّبين” وهو اللفظ ذاته الذي استخدمته آلة بعث العراق الإعلاميّة عند وصفها أعمال حركة التحرّر الكردية في كردستان العراق.

في آذار 2004 كان المجتمع الكرديّ موحّداً كما لم يكن من قبل، وكما لن يكون فيما بعد، إلى ذلك بدت الحركة الكردية متكافلة ومتعاونة فيما بينها وهي العلامة الفارقة في مسار وحدة الحركة الكردية منذ ذلك الحين رغم التباين في الآراء والمواقف وتحليل الأحداث، في مقابل ذلك عانى الكرد من عزلة رغم أنّ أطرافاً معارضة صدّقت سردية النظام وأباطيله المقائلة بجهوزية كرد سوريا لأن يصبحوا جزءاً من المصفوفة الأميركية في المنطقة وأنّهم يسعون إلى إقامة كيان قومي وأنهم مستعدون لتكرار تجربة كرد العراق، إلّا أن الأصوات القليلة التي وقفت مع الكرد في محنتهم صوّبت شيئاً من الخطأ الكبير الذي سقط فيه معارضون آخرون.

ويمثّل استذكار الانتفاضة كحدث سنويّ، والمقتصر على كرد سوريا دون سواهم، أحد المقدّمات المطلوبة في سياق البحث عن تراث الكراهية والعنصرية والقسوة في سوريا، وإمكانية جعل الاستذكار مدخلاً لإحلال العدالة وكشف الحقيقة، ولئلّا تلصق الجرائم المتصلة بالكراهية والعنصريّة في عفرين ورأس العين/سرى كانيه، التي تحصل في هذه الأثناء، بدول الجوار وحسب.