اللاذقية – نورث برس
يصر محمد أحمد (45 عاماً)، وهو مزارع من قرية دوير بعبدة بريف جبلة (نحو50 كم جنوب شرق اللاذقية) على إخفاء جزء من محصول التبغ خاصته كي يبيعه لتجار التبغ المفروم بسعر جيد. بدون ذلك فإن “ما يحققه الموسم لن يغطي أكثر من تكاليف الإنتاج.”
في هذا التحقيق نتقصى معاناة “أحمد” جنباً إلى جنب مع معاناة نحو 60 ألف مزارع تبغ في سوريا، يحاولون الاستمرار في رحلة عمل مضنية طوال العام ليسدوا رمق نحو 90 ألف عائلة تعيش على ما تدره حقول التبغ من مال قليل نهاية كل موسم.
مقابل هذه المعاناة التي هي أقرب إلى قصة شقاء، نكتشف معاً سوء التدبير الحكومي بالتزامن مع انتشار شبكات امتهنت العيش على عرق فقراء البلاد وعائلاتهم.

ثمّة دورة طويلة تقارب عاماً كاملاً من الجهد والعمل قبل الوصول إلى بيع محصول التبغ المجفف إلى المؤسسة أو التجار.
ولكن في النهاية، يقول مزارعون تحدثت إليهم نورث برس إن: “الموسم يؤمن لنا دخلاً مالياً معقولاً”، بالرغم من كل الصعوبات التي تتخلل عملية الزرع والجني والبيع، بعضها مزمن وبعضها الآخر مستجد وناتج عن الحرب التي تطحن البلاد منذ سنوات.
تمر عملية إنتاج التبغ بمراحل تحتاج إلى عناية في مشاتل خاصة يجري بناؤها من الصفر.
في البداية تتم غربلة التربة من البحص الكبير والصغير وتنعيم سطح التربة، ثم نثر البذار ورشّها بالماء بطريقة الرذاذ، وبعد ذلك تغطيتها بشرائح النايلون لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى شهر تقريباً.
لاحقاً، يُرفع النايلون بشكل يومي للسقاية والعناية، ولدى ظهور البراعم يقوم المزارع بوضع عيدان خاصة تحت غطاء النايلون على شكل أقواس كي يسمحوا للنبتات بالنمو.
وبعد أن يصل طول الشتلات إلى نحو عشر سنتيمترات، ومع قدوم شهري شباط/فبراير وآذار/مارس، تبدأ عملية نقلها إلى أراضٍ تمت حراثتها مسبقاً، ومخططة على شكل أثلام طولية.
يقول المزارع محمد أحمد: “تقوم العائلة بكاملها بالعمل في الحقل، بحيث يختص كل فرد بعمل ما، فأحدهم يضع الشتلات على طول اﻷثلام، وآخر يزرعها باستخدام الشاتول (أداة الزرع) وثالث يسقي ورابع يعيد السقاية وهكذا.”
لكن الأمر لا يتوقف هنا، بل يجب متابعة شؤون التبغ بشكل يومي تقريباً، سواء للسقاية أو رش المبيدات اللازمة لحماية النبتات من الأوبئة والأمراض.
بعد كل هذا، يبقى وجود خطر محتمل دائماً: “عواصف البَرد التي تضرب الشتلات اليانعة وتثقب اﻷوراق وتفقدها الكثير من قيمتها الاقتصادية” طبقاً لـ”أحمد”.
مع مطلع الصيف يبدأ موسم حصاد الأوراق الخضراء من أسفل الشتول إلى أعلاها، في ساعات الصباح الأولى أو عصراً مع توفر الرطوبة في الجو.
ويقول “أحمد” الذي يتعامل مع هذا النوع من النبات منذ عقود: “تبدأ عملية شك الأوراق في خيوط من القنب أو النايلون، بطقس تجتمع فيه العائلات على جلسات القهوة والمتة والإفطار.”
وفي حال الحاجة، يتم استئجار يد عاملة بأجرة يومية، حيث يستغرق إنجاز الخيط الواحد منها قرابة الساعة، لتعلّق سلاسل الخيطان على منشر يشبه منشر الغسيل، وتُترك لتجف تحت أشعة الشمس، مع وجوب تغطيتها أحياناً لحمايتها من التفتت أو الغبار أو أية عوامل أخرى مؤذية.

يعود تاريخ زراعة التبغ واستخدامه في سوريا إلى نحو 430 عاماً، كما يذكر حساب المؤسسة العامة للتبغ في موقع “فيسبوك”، حيث كان ظهوره الأول في حقبة السلطنة العثمانية، وظهر التبغ حينها في كل من سوريا والعراق سنة 1590 ميلادية.
وكان مسموحاً لمحافظة اللاذقية في ذلك الوقت بزراعة التبغ على أساس قوانين حصر خاصة لصنف أبو ريحة المسمى بالتبغ المدخون والذي عرف في العالم باسم “التبغ اللاذقاني”.
وقبل نحو مئتي عام، بدأ سكان الجبال الساحلية بزراعة النوع الأكثر قدرةً على الحياة في جميع أنواع الأراضي عالية وقليلة الخصوبة. هذا النوع من التبغ عرف باسم “شك البنت”.
لكن في سوريا اليوم سبعة أصناف رئيسية من التبغ هي (شك البنت- تنباك- فرجينيا- برلي- بصما- بربلين- كاتريني).
وتختلف هذه الأصناف بين مرويّ وبعليّ، كما تختلف حسب وظيفتها مثل قوتها ومذاقها وامتصاصها.
كما تتباين إنتاجيتها في الدونم، إذ ينتج دونم البصما العطري الذي يُزرع في المناطق الساحلية 60 – 80 كيلوغراماً.
ويعطي الفرجينيا المروي ذي المذاق السكري، والذي ينتشر في مناطق الغاب ودرعا حالياً قرابة نصف طن في الدونم، أما النوع البعلي “شك البنت”، والذي يزرع في المناطق الجبلية، فينتج تقريباً ربع طن في الدونم، وهو نوع محليّ سوري الأصل.
وبحسب تقديرات مزارعين، تبلغ تكلفة إنتاج كيلو واحد من التبغ بأسعار العام الحالي قرابة ألف ليرة سورية، تتوزع بين ثمن البذور والعناية بها وأجور المزارعين وغيرها.
ويصل ربح الكيلو الواحد بأسعار هذا العام لدى المؤسسة إلى 1500 ليرة سعر رسمي وسطي، وبالتالي فإن إنتاج خمس دونمات من نوع “شك البنت” و”الفرجينيا” مثلاً لا يتجاوز ثلاثة ملايين ليرة سورية (1000 دولار) سنوياً.
وبحساب شهري، فإن حصة الفرد الشهرية من الأرباح في عائلة مكوّنة من خمسة أفراد لا تتجاوز 50 ألف ليرة سورية (25 دولاراً أميركياً).
وتلعب الحيازات الزراعية الصغيرة في الساحل دوراً حاسماً في محدودية الدخل المتأتي من زراعة التبغ، فغالبية الأسر ليس لديها مساحات كبيرة، وتتراوح بين دونمين إلى عشرة، وهو ما يعني انخفاض معدل الدخل الشهري عن الرقم السابق كثيراً.

تبلغ نسبة المساحات المزروعة بالتبغ في الساحل السوري 63% من إجمالي المساحات المزروعة في سوريا، وفق دراسة أجرتها جامعة تشرين الحكومية العام 2011.
وفيما بعد، حتى عامين سابقين، فإن المساحات ارتفعت إلى أكثر من 80% بسبب خروج كثير من المساحات في المناطق التي شهدت الحرب عن الزراعة، خاصةً مناطق سهل الغاب وريف إدلب، مقابل نقص مستمر في كميات الإنتاج المتوقعة بسبب تخزين مزارعين في الساحل لجزء من المحصول وعدم تسليمه لمؤسسة التبغ.
في العام الماضي كان إنتاج اللاذقية رسمياً بحدود أربعة ملايين كيلو تبغ خام على مساحة 55572 دونماً.
فيما يبلغ عدد المزارعين وفق تقديرات مؤسسة التبغ نحو 60 ألف مزارع، وتعيش 90 ألف أسرة على محصول التبغ.
في العام الماضي عادت مناطق الغاب إلى الإنتاج، ودخلت محافظة درعا على قائمة المناطق المنتجة للتبغ أيضاً.
وقدّر معاون مدير مؤسسة التبغ “قتيبة خضور” في تصريحات لإذاعة محلية إنتاج سوريا من التبغ لموسم 2019 بنحو 11.5 ألف طن، وحوالي 12 ألف طن موسم 2018 رغم الظروف الجوية السيئة بحسب تعبيره. في حين يقدر مصدر في ” مؤسسة التبغ” تضاعف الكميات المنتجة لموسم 2020.
من جهته، يشير أيمن علي، وهو مهندس في مؤسسة التبغ إلى أن “المساحة السابقة هي مساحة مرخصة بزراعة التبغ، وهناك مساحات أخرى غير مرخصة تقوم المؤسسة بملاحقة مزارعيها وإتلاف المحصول في حال عدم الالتزام، ولكن يصعب حصرها، علماً أن المساحات المرخصة قد تم إنقاصها بسبب تراكم كميات كبيرة من المنتج الخام في المؤسسة تعود لعدة سنوات سابقة.”
لكن المؤسسة تقدم البذور مجاناً، في حين أن بقية المواد كانت تنال بعض الدعم من المؤسسة طبقاً لـ”علي”.
وبالرغم من صعوبة الحصول على البذار بعد إغلاق عدد من مراكز البذور في المناطق المختلفة بسبب الحرب (مركز إيكاردا على طريق حلب إدلب الأكبر فيها)، إلا أن المؤسسة استعاضت عنها بمركز البحوث التابعة لها، والذي ينتج البذار ويوزعها على المزارعين، كما يقول مصدر في مؤسسة التبغ.
ويقول المهندس “علي” إن: “المؤسسة تدعم المزارعين اليوم، بتقديم البذور والأدوية والمبيدات ومستلزمات الزراعة، عبر سلفةً على المحصول دون فوائد، كما تقدّم الخيش مجاناً لتوضيب المحصول.”
ويضيف: “هناك تسهيلات في استلام المحصول عبر إحداث مراكز خاصة لاستلامه في أماكن قريبة من مناطق الزراعة ليتم تقييم جودة المحصول وبناءً عليه يحسب سعره.”
وأدى نقص المساحات المزروعة، وفق مزارع اكتفى بالتعريف عن نفسه بـ”إبراهيم” ويبلغ من العمر 60 عاماً، إلى ما وصفه بـ”تضييق فرص البيع للتجار القادمين من مناطق مختلفة، حيث يحاسب المزارعون على زيادة تلك المساحات.”
وتحدثت مصادر في وزارة الاقتصاد لـ”نورث برس” عن أن مؤسسة التبغ تعتمد سياسة تقوم على تخفيض المساحات المزروعة بالتبغ، بسبب صعوبة التصدير المرتبط بالعقوبات الأميركية والغربية على دمشق.
مدير في الإدارة العامة لمؤسسة التبغ، رفض الكشف عن اسمه، قال لـ”نورث برس” إن المؤسسة تمنع البيع للتجار بالفعل، وتمنع زراعة أي مساحات جديدة من دون الحصول على ترخيص.
وقال أيضاً إن المؤسسة تتغاضى في الآونة الأخيرة عن تغريم أي شخص يزرع أكثر من المساحات المرخصة.
ولكن يتم تغريم من يبيع التجار قبلها، وتشترط المؤسسة أن يتم بيعها “القطفة الأولى” من المحصول، “وهذا حقّها، لأنها هي من يدعم المحصول وليس التجار” بحسب المصدر.
المدير كشف عن أن التصدير متوقف منذ سنوات، وقال إن “آخر شحنة تبغ معدّة للتصدير كانت في بدايات الأزمة، إلى اليونان، وبسبب العقوبات تم تأجيلها لأكثر من مرة، حتى تم التحايل لاحقاً وتم إرسالها إلى لبنان ومن هناك إلى اليونان.”
وأضاف: “هناك صفقات أخرى عقدت مع مصر، لكنها توقفت لاحقاً بسبب تشديد العقوبات على دمشق.”

في أيار/مايو من عام 2012 أعلن الاتحاد الأوروبي عن عقوبات ضد دمشق، شملت مؤسسة التبغ السورية، وتم منعها من استيراد مختلف أنواع الدخان الأجنبي، أو المواد الداخلة في صنعه.
وبعد هذه العقوبات تقدم مستثمر أردني (لم يتسن معرفة اسمه) بعرض لمؤسسة التبغ، يهدف إلى التحايل على العقوبات المفروضة عليها.
وتعهد المستثمر بإدخال المواد الأولية اللازمة لصناعة التبغ مقابل السماح له بإنتاج أنواع من الدخان اعتماداً على التبغ السوري، وبيعه في الأسواق السورية والعربية.
وبحسب المدير في الإدارة العامة لمؤسسة التبغ، رفضت المؤسسة بيع التبغ السوري للمستثمر الأردني.
في حين سمحت له فقط بإنتاج نوع واحد هو “الجيتان الفرنسي” الذي كانت تنتجه بترخيص من شركة “جيتان” الفرنسية، قبل أن تتوقف بسبب العقوبات، على أن يستورد التبغ من فرنسا.
وقال المدير: “بعد رفض المؤسسة لمطالب المستثمر، اتفق مع جهات نافذة (هي الجهات التي تحتكر اليوم استيراد التبغ) وأغرق السوق السوري بأسوأ أنواع الدخان المخزن والمخالف للمواصفات.”
لاحقاً تبين أن المستثمر نفسه يتردد على الكثير من الدول العربية ويعقد الصفقات لتوريد الدخان المزور والمقلد، حيث قام بإغراق السوق الأردني بالدخان المهرب وتزوير مختلف الماركات التجارية من الدخان وتجريع المدخنين السم القاتل من النيكوتين الموجود في التبغ بنسبة تفوق النسبة المطلوبة حسب المواصفات العالمية بسبعة أو عشرة أضعاف، وهو ما أكدته وكالة “أنباء الوطن” الأردنية بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2017.
وانتهت الشراكة بين المستثمر الأردني ومؤسسة التبغ إلى المحاكم، حيث رفع الطرفان دعاوى قضائية ضد بعضهما البعض بحسب مصادر مسؤولة تحدثت لنورث برس. ولم يتسن الحصول على معلومات إضافية من مصادر قضائية حول هذا الملف.
لكن الدخان المخزن والمزور والمخالف للمواصفات ما زال يملأ الأسواق السورية حتى اليوم، ولكن عبر “جهات نافذة”، وتشير أصابع الاتهام إلى “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري.
وقال مصدر في مؤسسة التبغ لنورث برس: “لسنا مسؤولين كمؤسسة سوى عن الأنواع التي تدخل بشكل نظامي، والتي تدخل إلى البلاد عبر وكلاء معتمدين من قبل المؤسسة، وهذه الأنواع تضع المؤسسة ختمها عليها.”
وأشار المصدر إلى عشرات الأنواع غير معروفة المصدر تعج بها الأسواق، ومن بينها لماركات عالمية مزورة (وينستون ولوكي سترايك وغيرها) وتباع بأسعار لا تتجاوز 500 إلى 600 ليرة.
وتخصص المؤسسة العامة للتبغ مبالغ كبيرة لاستيراد التبغ الذي يحتل المرتبة الرابعة في قائمة مستوردات سوريا للعام 2018 كما تشير بيانات التجارة الخارجية، وبمبلغ 8 مليار ليرة سورية (347 مليون دولار) أي عشرة أضعاف قيمة التبغ المدفوعة للمزارعين.
ووفقاً لبيانات التجارة الخارجية السورية للعام 2017 اقتصرت قيمة المستوردات من أنواع الدخان على 94 مليون دولار، مصدره الأساس أرمينيا بمقدار 50 مليون دولار، وروسيا 24 مليون دولار.

منذ أن تأسست مؤسسة التبغ (الريجي) 1935 وبعد تأميمها في العام 1963 كان الاعتماد في تحديد جودة التبغ المجفف على لجان وأشخاص تخصصهم المؤسسة لهذا الأمر، وهو ما تعرف بعملية تخمين المحصول، ما يجعل من احتمال الظلم وارداً.
يقول “فاروق” (62 عاماً) وهو مزارع تبغ من ريف بانياس في محافظة طرطوس إن: “المخمّنين هم من موظفي المؤسسة، وبعضهم ذوي خبرة لا شك، ولكن ما يحدث أن غالبية المزارعين يأملون أن يصنّف القسم الأكبر من منتجهم نخباً ممتازاً (أوّل) وبالتالي تكون حصيلة موسمهم جيّدة، ولكن ظروف التخزين ونوعية ورق التبغ تلعب الدور الرئيس في تقرير جودته كنوع أوّل.”
وتأخذ عملية التخمين شهوراً أحياناً، ما يفتح الباب أمام فساد اللجان المخوّلة بذلك، وهو ما يحصل فعلاً، وفقاً للعديد من المزارعين الذين التقيناهم.
وأقر مصدر في مؤسسة التبغ بوجود فساد في عمل اللجان، لكنه قال إن “الفساد غالباً ما يكون لصالح المزارع وليس لصالح المؤسسة.”
وبحسب المصدر يقوم المخمنون بوضع أسعار النخب الأول على النخب الثاني والثالث مقابل تقاضيهم رشاوى من بعض المزارعين، وهو ما أدى إلى خسائر تكبدتها المؤسسة، على حد قوله.
وللتقليل من عمليات الفساد -يقول المصدر- اعتمدت المؤسسة نظاماً يقوم على تشكيل لجان تضم ثلاثة أشخاص فقط، “خبير وخبير مدقق وخبير موجه.”
وقامت المؤسسة بتغريم كل خبير ثبت تحايله على القانون، ويقول المصدر: “لكن بعض الخبراء، ضربوا ضربتهم وجمعوا ثروات.”
ويقول “أحمد” وهو مزارع ويعمل أيضاً موظفاً في الريجي إن “اللجان تعمل بمنطق ألا يفنى الغنم ولا يموت الذئب، وهو ما يجعل نوعية التبغ الوارد إلى مستودعات المؤسسة غير مطابق للنوعية والجودة أحياناً، وحقيقةً لا يمكن أتمتة هذه العملية بأي شكل، وستبقى عرضةً للتدخل البشري.”
ولهذا السبب تحدث عمليات بيع المحصول للتجار بشكل رئيسي، “الفرق في السعر كبير، حيث يبلغ سعر الكيلو الذي تقدّمه المؤسسة من النوع الجيّد بين الألفين إلى ثلاثة آلاف ليرة (0.8-1.2 دولار).
بينما الأسعار التي يقدمها التجار فهي ضعف هذا الرقم، وتصل إلى سبعة آلاف ليرة للكيلو (2,5 دولار) للتبغ الخام وأحياناً المفروم.
وكلما زادت جودة التبغ ارتفع سعره، عدا عن أن المزارعين يقبضون سعر محصولهم المباع فوراً، وبالتالي، “يحافظ قليلاً على قيمته في ظل التدهور اليومي الحاصل في قيمة صرف الليرة السورية.”
ويقول “أحمد” إن عملية قبض ثمن المحصول من المصرف تأخذ وقتاً وروتيناً وضرائب أيضاً، حيث “يجب تخليص براءة ذمة من المؤسسة ثم الانتقال إلى المصرف والقبض”.

مع ارتفاع أسعار علب التبغ الجاهزة، اتجه المدخنون إلى علب التبغ المحلي المنتج من قبل المؤسسة العامة للتبغ، التي ما يزال سعرها مقبولاً (500 ليرة للحمراء الطويلة و400 للقصيرة).
ولكن جزءاً كبيراً من الإنتاج اختفى من السوق وتحوّل إلى السوق السوداء التي ظهرت فيها هذه الأنواع بأسعار مضاعفة.
يقول محمد حسن، وهو بائع تجزئة يملك متجراً صغيراً في منطقة بساتين الريحان في مدينة اللاذقية: “فجأة، اختفت كل الأنواع المحلية، وباتت حصة التاجر صاحب الرخصة كروزين من كل نوع (20 باكيت طويلة و40 قصيرة).
ويضيف: “نأخذ في العادة حصتنا حسب الطلب، لكن ما حصل أن الموزّعين احتكروا البضاعة وباعوها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة عدة مرات. سعر علبة الحمراء الطويلة تجاوز الألف ليرة، بالرغم من توقف التصدير بسبب العقوبات الاقتصادية على البلد.”
ويلقي “حسن” باللائمة على مجموعة من الأشخاص لم يسمهم، ويقول إنهم “يسيطرون” على سوق علب التبغ الجاهزة، فيستوردون أو “يهرّبون الدخان دون حسيب أو رقيب.”
وفي حين تغزو السوق أنواع غير معروفة المصدر، فإن سعر النوعيات الجيدة دون قدرة كثير من السوريين.
ويقول “حسن”: “هناك مئات الأنواع التي لا نعرف إذا كانت صالحة للاستخدام البشري أم لا، ولكنها الوحيدة المتوفرة في السوق، ومن يقومون بضخها في السوق هم “كالعادة من حيتان البلد.”

بالتوازي مع ارتفاع الأسعار في كل شيء، زاد تحوّل المدخنين في سوريا إلى التبغ المفروم، أو ما يعرف بـ”التبغ العربي” أو “الدخان الفلش”.
ويتم فرم التبغ بعد تنظيفه من الأعواد الصغيرة ونزع خيوط النايلون منها، ثم كتّه على المنكلة (آلة فرم تشبه آلة فرم اللحوم)، لتجري عملية رشّه بقليل من الماء ليحتفظ برطوبة مقبولة ثم تتم تعبئته في أكياس نايلون وبيعه، كما يقول صاحب منكلة، طلب عدم ذكر اسمه لأن “المنكلة غير مرخصة.”
ويبلغ سعر كيلوغرام التبغ المفروم ذي النوعية الوسط بين (15-20) ألف ليرة سورية (5-7 دولارات)، في حين يرتفع السعر إلى 25 ألفاً للنوعية الجيدة جداً، ولكل منها زبائنها.
يقول “رامز”، وهو من بائعي التبغ المفروم في منطقة الكراجات في اللاذقية: “نشتري الورق بسعر جيد، إذ وصل سعر الكيلو الخام هذا الموسم إلى سبعة آلاف ليرةـ أي 2.5 دولارات بسعر الصرف الحالي).
ويقوم “رامز” بعد تنظيفه وفرمه ببيعه للزبائن بحسب قدرتهم على الشراء، “هناك من يشتري كيلو وهناك من يشتري بالوزنة، أي بمبلغ محدد.”
لكنه يقول إن سعر ورق دفاتر السيجارة قد ارتفع مؤخراً، إذ يتراوح سعره اليوم بين (250 – 300) ليرة إذا كان صناعة أردنية، في وقت لم يخف البائع استغرابه من “عدم إنشاء معمل للورق في سوريا حتى الآن.”
وتقول مصادر مطلعة على عمليات تجارة التبغ في سوريا إن التبغ المفروم يجوب كل أنحاء البلاد، “متجاوزاً الحواجز والموانع بين المناطق السورية عبر شبكة كبيرة من الموزّعين والتجار الصغار.”
ويتفاوت السعر من منطقة لأخرى ففي دمشق مثلاً بلغ سعر الكيلو الواحد إلى ثلاثين ألف ليرة سورية (10 دولارات)، في حين وصل في حلب إلى أعلى من ذلك.
ويتفاوت السعر من منطقة لأخرى ففي دمشق مثلاً بلغ سعر الكيلو الواحد إلى ثلاثين ألف ليرة سورية (10 دولارات)، في حين وصل في حلب إلى أعلى من ذلك.
ومؤخراً، بدأت المؤسسة العامة للتبغ بإنتاج التبغ “العربي”، المعبأ بأكياس خاصة وأوزان محددة، مستغلةً توجه الكثير من السوريين إلى هذا النوع من التبغ، باعتباره أقل ثمناً وخالٍ من المنكهات والمواد الضارة، وهو ما يؤكده المدير في الإدارة العامة والذي قال: “نتوقع رواجاً كبيراً لهذا النوع من التبغ”.
تؤمن زراعة التبغ مورداً اقتصادياً لعدد كبير من المزارعين في الساحل، ولكنها مثل غيرها من الزراعات الأخرى تعاني من سياسة “التطنيش” وعدم ملائمة الأسعار مع السوق والتكلفة الواقعية للعمل وأساسياته.
ويلعب الاستيراد دوراً في عدم الرغبة في التوسع وتحسين النوعية، وخاصةً مع غياب آلية توازي بين الأسعار وتكاليف الإنتاج.
يقابله عدم سعي مؤسسة الريجي والتي تعتبر كعماد للاقتصاد السوري في زمن سابق لتحسين نوعية وجودة منتجها، وهو ما يمكن البناء عليه في التفكير بسياسة زراعية مختلفة في ظل الظروف السورية الراهنة.
في نهاية المطاف يبدو أن المزارعين يبقون الحلقة الأقوى والأضعف في آن معاً في طريق رحلة الإنتاج المضنية، كما يبدو أنه لا يملك نحو 60 ألف مزارع إلا المضي قدماً في مهنة الآباء والأجداد رغم مرارة العيش وضعف مردود المحصول.