مفارقة سياسة احتواء إيران في سوريا

تراجع الدور الإيراني في سوريا منذ أن تسلّمت روسيا حقيبة تصريف أعمال القتال والحؤول دون سقوط النظام، لم يكن تصدّر روسيا للمشهد يعني أفول نجم إيران بالضرورة بقدر ما تسبب في استحداث سياسات إيرانية أقل استعراضاً وأكثر تحفّظاً، ولم تكن إيران كذلك لتختفي من المشهد رغم تكبّدها خسائر جسيمة في سوريا فضلاً عن السوء الذي لحق بسمعتها في العالم العربي إلى جانب سمعة حزب الله كنتيجة طبيعية لما يقتضيه التدّخل من عنف وقسوة وإراقة للدماء، لكن مع ذلك فإن الجمهورية الإسلامية مصرّة على البقاء رغم الأكلاف الباهظة، ذلك أن الرؤية الإمبريالية الإيرانية تقوم على فكرة نقل الصراع مع الآخرين إلى أراضي الآخرين، وهذه الاستراتيجية تساهم حتى درجة كبيرة في تجنيب انتقال الصراع صوب الجغرافية الإيرانية.

في الأيام الأولى للاحتجاجات في سوريا، أدلى الرئيس العراقي الراحل، جلال طالباني، بتصريح عبّر فيه عن رؤية مختصرة للاستراتيجية الإيرانية في سوريا، ونتيجة لمعرفته بدقائق الأمور في السياسة الإيرانية، حسم طالباني مسألة بقاء النظام السوري بالاعتماد على الدعم الإيراني المنقذ، حيث أن “الدور بالنسبة لإيران أهم من النووي”.

جزء كبير من ثمن الحفاظ على المكانة والدور في سوريا دفعته إيران المكشوفة على الطائرات الإسرائيلية في سوريا، ففي العام الماضي فقط قصفت إسرائيل نحو 50 هدفاً في سوريا، بينها الكثير من الأهداف الإيرانية، فيما كان اللافت في التصعيد الإسرائيلي، خلال المدّة القصيرة الماضية، هو الرغبة في تكثيف الأعمال العسكرية في سوريا خلال الأيام الأخيرة لوجود ترامب في البيت الأبيض، وهذا ما يفسّر الضربة القاسية التي وجهها الطيران الإسرائيلي لمواقع ومخازن أسلحة عائدة لمليشيات إيرانية في دير الزور والتي تسببت بمقتل 57 منهم على الأقل، وبطبيعة الحال لم تدفع هذه الضربات التي يمكن وصفها بالاستفزازية إلى أي ردّ إيراني مباشر، ما يعني أن إيران تسعى إلى ضبط نفسها قدر المستطاع حيث تلوح فرص عودة الولايات المتحدة إلى استئناف مفاوضات الاتفاق النووي وفق وعود كان قد قطعها سيد البيت الأبيض الجديد، بايدن.

ثمّة فصل حتمي بين مساري العلاقة الأميركية الإيرانية، فالاتفاق النووي حال استئنافه المتوقّع سيرفع جزءاً من العقوبات عن إيران، وقد تذهب أطراف الاتفاق إلى مزيد من التعاون المبني على الثقة المتبادلة، لكن المسار الآخر في سوريا والعراق ولبنان سيشهد الكثير من التعقيد، وإذا كنّا في صدد الحديث عن الدور الإيراني في سوريا، فإن المواجهة الإيرانية الأميركية تبدو حتميّة بالنظر إلى الدور الإيراني النافذ في داخل مؤسسات النظام السوري الحيوية، حيث يحتاج النظام السوري إلى قوّة مكافئة للقوة الروسية، أي إلى حضور إيراني يخفف من أعباء التدخل الروسي الصارم ويمكّن دمشق من عدم الانصياع للتوجهات والقرارات التي تحاول موسكو فرضها.

في المقابل ثمة شراكة روسية إيرانية، رغم حديث موسكو المتواصل عن تضخيم إعلامي غربي وعربي لحجم تواجد ودور إيران في سوريا، أمّا طبيعة الشراكة فهي قائمة على الاحتياج الروسي للمليشيات الإيرانية في جبهة إدلب، وفي مواجهة تنامي نفوذ داعش في المناطق الصحراوية والقريبة من مكامن النفط والفوسفات التي وضع الروس إيديهم عليها، وأخيراً الحاجة إلى التضييق على الولايات المتحدة في محيط قاعدة التنف، وفي شمال شرق سوريا لا سيّما في دير الزور، بدوره يؤمّن التحالف الغطاء للتواجد الإيراني حيث أن لتماس القوات الروسية والإيرانية دوره الذي يصعّب على الولايات المتحدة وضع بنك أهداف لا يختلط فيه الروسي بالإيراني.

تعرَضت إيران لضربات قويّة نفّذها الثنائي الأمريكي الإسرائيلي خلال سنوات حكم ترامب، لكن مقدرة الإيرانيين على امتصاص الصدمات، وإصرارهم في سبيل الاحتفاظ بدورهم في العراق وسوريا ولبنان فاق الوصف، رغم أن الأمور كادت تنجرف نحو حرب مفتوحة وفي غير مناسبة، كما لا يعني وصول بايدن للحكم خفض التنسيق بين واشنطن وتل أبيب فيما خص احتواء إيران في سوريا، ولا يعني أيضاً أن مصير الاتفاق النووي معقود على بقاء أو جلاء المليشيات الإيرانية عن سوريا، والأهم هو أن إدارة بايدن مقبلة على إعلان بقاء قواتها قريناً ببقاء إيران في سوريا وهذا الأمر على ما يشكّله من استنزاف وإرهاق للدولتين يمثّل الخيار الوحيد المتاح ضمن لعبة “عضّ الأصابع” التي يجيدها الطرفان.

وفلسفة الحرب الإيرانية لا تلقي بالاً  للخسائر البشرية في صفوف ميليشياتها وقوّاتها، هذا بحدّ ذاته يفقد الصواريخ الأميركية والإسرائيلية الأثر الكبير وكأنّها تتساقط على الرمال، رغم أنّها ستبقى توصف بالضربات الموجعة، وفق رهافة المحللين الغربيين، في حين أن ما راكمته الولايات المتحدة من تجربة الاعتماد على حلفاء محليين موثوقين كقوات سوريا الديمقراطية جعلها تدرك أهمية عدم خسارة مقاتليها على أراضٍ أجنبية وهذا بدوره يمنح واشنطن الأفضلية في لعبة احتواء إيران، لكنه احتواء موضعي يشمل معظم مناطق شرق الفرات وحسب.

المفارقة الأهم التي يمكن الحديث عنها هي حاجة إيران إلى الموارد المالية التي تمكّنها من البقاء في سوريا، وفي حال مضى الاتفاق النووي فإن الولايات المتحدة ستقدّم لإيران المقدّرات المالية اللازمة للبقاء في سوريا عبر رفع العقوبات الجزئية عنها، هذه المفارقة التي تبدو ساخرة إلى أبعد حد ستدفع الإيرانيين إلى امتصاص الضربات الأميركية والإسرائيلية اللاحقة وعدم قيامها في المقابل بمواجهات مفتوحة قد تؤدي إلى فرض العقوبات عليها.

قد يبدو هذا الأمر عبثياً حتى أبعد الحدود، لكنه يمثّل الصيغة الوحيدة للتعايش داخل الخراب السوري بين إيران التي تبحث عن دور مديد في سوريا، وأميركا التي لا تريد لإيران أدنى دور هناك.