من الاستعمار الداخلي إلى العدالة الاجتماعية

نحتَ الشعبويون الروس مفهوم “الاستعمار الداخلي” لوصف استغلال الطبقات المدينيّة للفلّاحين،فيما بعد تبنّى غرامشي ولينين المفهوم لجذب الانتباه إلى التخلف الاقتصادي المستمر لبعض المناطق الإيطالية والروسية، في حين أنه ومنذ ستينيات القرن العشرين بدأ المفهوم يشير إلى مناطق محرومة اقتصادياً ومتميّزة ثقافياً عن المناطق المركزية، وبطبيعة الحال يقبل هذا المفهوم الاسقاط على أحوال مناطق معيّنة في سوريا، حيث أنّ مناطق الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث ومنذ تأسيس الكيان السوري بقيت أقرب إلى المستعمرة الداخلية منها إلى منطقة حيوية تكتنز وتنتج الثروات النفظية وتشكل سلّة غذاء البلاد وتنضح بالأيدي العاملة.

لطالما وصفت محافظات الجزيرة/ شمال شرق سوريا، رسميّاً، بأنها محافظات “نامية” في بلدٍ صُنّف دولياً بدوره بأنّه في عداد البلدان النامية، وفيما تواصلت مشاعر السكان بوقوع الحيف والظلم على مناطقهم لجهة غياب العدالة الاجتماعية واتباع سياسات تمييزية ثقافياً واقتصادياً، كان النظام يمعن في اتباع سياسات النهب العام وانعدام أي رؤية لتحقيق تنمية متوازنة بين هذه المناطق وبقية البلاد، فوق أنّ النظام المركزيّ لم يتح لمجمل المحافظات السورية أدنى الإمكانيات للحكم المحلي والاستفادة من الموارد المحليّة ورسم الخطط والبرامج التنموية والاقتصادية.

خضعت المناطق الكردية في الجزيرة لسياسات تمييزية في حقول الثقافة والاقتصاد والخدمات العامّة والتوظيّف في الجهاز الإداري، بالإضافة إلى القوانين التمييزية التي كان آخرها القانون المريب رقم 49 لعام 2008 الذي عطّل حقوق البيع والشراء للعقارات والأراضي الزراعية وحال دون إعمار المنطقة وتسبب في توقّف عشرات المهن وارتفاع معدلات البطالة والتسبب في موجات هجرة مهولة إلى مدن وحواضر الداخل، لا سيّما إلى دمشق، بحثاً عن العمل ضمن شروط غير إنسانيّة.

لم تكن محافظتا الرقة ودير الزور أفضل حالاً من المناطق الكردية ومن محافظة الحسكة لجهة توزيع الموارد وسياسات التنمية، وكانت الجزيرة إلى ذلك ترفد مدن الداخل الكبرى ولبنان بآلاف العمّال، أما منسوب التشاوف والسخرية من أبناء المنطقة فبات أقرب إلى التسلية الوطنية التي تمرّ دون حساب، حيث “الجزراويّ” مهان ومهيض الجناح وعرضة للسخرية وفق الصورة التي بدأت بعض المسلسلات الكوميدية تقدّمها عن أبناء المنطقة وتعمد إلى تكريسها في الوعي العام.

لاحقاً خرجت مناطق شمال شرق سوريا في معظمها من قبضة النظام ليتم إقامة نظام حكم جغرافيّ محلّي متعدّد الإثنيات على أساس الحكم الذاتي وبوتيرة متسارعة، إلّا أنه وبمعزلٍ عن التهديدات التركية المتواصلة والجرح الغائر الذي خلّفه احتلال رأس العين وتل أبيض، والتهديدات التي تمثّلها خلايا داعش وتحرّكاتها، فإنّ المطالبات الشعبية تتزايد في مسار مكافحة الفساد والزبائنية وتعقّب المتربّحين وإرساء نموذج يحقق شيئاً من العدالة الاجتماعية، ففي سباق الأولويات يقف الأمن في سلم أولويّات السكان، أمّا في الأوقات التي يبتعد فيها شبح الحرب وتتوقف فيها التهديدات فإنّ المطالبة تشتد على تحسين الخدمات العامّة والنوعية، وتصبح العدالة الاجتماعية وتقليص الفجوة بين الأثرياء الجدد والفقراء هي المسألة الأهم.

لم يعد الرأي العام مقتنعاً بمسألة المفاضلة بين الأوضاع المعاشية في شمال شرق سوريا ومناطق النظام والمعارضة رغم صواب التفاضل؛ فالصعوبات التي تواجه الطبقات الفقيرة في تأمين لقمة عيشها باتت أعظم، والفساد الذي لا تقرأ عنه في التقارير الصحفية أو في قرارات المحاكم أو التصريحات الرسمية يبقى فساداً تجب محاربته وهو ما يستشعره الناس بأنفسهم دون الحاجة إلى مصادر رسمية، أمّا أنظمة الرعاية الصحية والبيئة والتعليم فباتت بحاجة إلى إعادة نظر، والأهم أن تصل منطقة شمال شرق سوريا إلى مرحلة انتخاب سلطتيها التشريعية والتنفيذية، إذ يساهم السعي في هذا المنحى في رد الاعتبار للطبقات الفقيرة التي تطمح إلى وجود سلطة تقوم هي بانتخابها لتؤمن لها الخبز والعدالة الاجتماعية.

سيبقى شبح عودة الدولة المركزية قائماً، الدولة التي لها كل سمات أنظمة الاستعمار الداخلي، والتي لا ترى في جغرافيا وسكان ومستقبل مناطق بأكملها أكثر من مزرعة وملكية خاصّة، أما القوّة الاعتراضية الحقيقية في وجه عودتهافهي الطبقات الشعبية الفقيرة التي ما إن تنال حظّها من العدالة الاجتماعية، بما فيه المبدأ الذي يساعدها على نيل حصّتها من الثروة وعلى أسس من المساواة، حتى تقف في وجه عودة النظام أو قيام أي نظام يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولعل الإدارة الذاتية مدينة في جزء كبير مما حقّقته لأبناء الطبقات الفقيرة وبحسبك أن تتمعّن في أسماء الشهداء في شمال وشرق سوريا ومنبتهم الاجتماعي.

في المحصّلة النهائية، إن من يُتوقع منه الدفاع عن مكتسباته بالضد من الإرهاب وأنظمة الاحتلال الخارجي والاستعمار الداخلي ويقف في وجه غول الفساد، هم العرب والكرد والسريان وسائر الجماعات الإثنية، نساءً ورجالاً، ممن يعيشون تحت ظلال نظام سياسي واجتماعي يراعي الحريات العامة والفردية ويجسّد مفهوم العدالة الاجتماعية حرفيّاً.