لعل أكثر ما يميز الرأسمالية الأوروبية منذ بدايات تأسيسها كنظام اقتصادي-اجتماعي قائم على أنقاض النظام الإقطاعي هو تثقيل الممارسات السلوكية النهبوية لها بتبريرات علمية، مهمة هذه التبريرات هي إدخال الرأسمالية في خانة كونها اقتصاد غايته إشباع الحاجات المتزايدة في المجتمع، على الرغم من أن التوسع الهائل الذي تحقق في النشاط الاقتصادي للمجتمعات الأوروبية قد تجاوزت نظرية كون الرأسمالية اقتصاد.
وأثبتت هذه النشاطات أن الرأسمالية عبارة عن وحش ولد منذ القرن الخامس عشر ونضج نسبياً في القرن السادس عشر مع ولادة المذهب الميركانتيلي في هولندا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا. لأن الرأسمالية بدأت بوضع أسس قوية تساعد على تغيير مسار التطور الاقتصادي للإنسانية نحو ترسيخ ذهنية الاستغلال في مختلف مناحي الحياة، وقد توسعت هذه الأسس لتشمل الكنيسة التي كانت توزع صكوك الغفران في المرحلة الإقطاعية وتدافع عن مصالح الإقطاعيين الأوروبيين، وتحولت بفعل التأثير القوي للنظام المولود في حينه إلى إعلان شرعية النظام الرأسمالي من خلال قبولها لأطروحات المدارس الاقتصادية المتنوعة، ولا سيما المدرسة الكلاسيكية.
ويشكل القس روبرت مالتوس مثالاً صارخاً عن حقيقة تحول الكنيسة من حالةٍ استغلالية إلى حالةٍ أكثر استغلالاً من خلال دفاعها القوي عن مصالح الرأسماليين المعادين للنظام الإقطاعي، واختارت الانتقال إلى الصفوف المعادية لمن كان يصادقها قبل حين.
لقد أقدمت الكنيسة على هذا التحول الدراماتيكي خشية أن تفقد مكانتها إلى الأبد بعد أن يئست من مواجهة إنجازات الثورة العلمية التي قادها المتنورون الأوربيون، والذين يأتي في مقدمتهم غاليلو غاليلي الذي دفع حياته ثمناً لموقفه العلمي القائل بكروية الأرض ومركزية الشمس للكون على العكس من اعتقادات الكنيسة المسيطرة على كل جوانب الحياة.
وقد أدى ضعف النظام الإقطاعي وتراجع دور الكنيسة وأهميتها إلى تزايد حاجة الإقطاعيين إلى الأموال النقدية واضطرارهم إلى الاقتراض بفوائد بعد التبريرات التي قدمتها الكنيسة البروتستانتية وحركة كالفن. وبرز الاقتصاد المالي الذي احتكره اليهود كفرع أساسي في ساحة النشاط الاقتصادي، وتوسع دوره في المراحل اللاحقة كاستجابةٍ طبيعية لحركة التوسع الرأسمالي نحو الخارج الأوروبي، واشتهرت عائلات بممارسة نشاط الإقراض والتمويل للقطاعين الخاص والحكومي على سواء، وتعتبر عائلة روتشيلد واحدة من أهم العائلات اليهودية التي سيطرت بشكل مطلق على قطاع التمويل في أوروبا، وساهمت في تأسيس البنوك والشركات المالية والتوسع في عمليات المضاربة وانتشار ظاهرة القروض العامة التي أدت إلى توثيق العلاقات بين السلطات السياسية المتشكلة حديثاً في أوروبا ما بعد الإقطاعية والرأسمالية التجارية، من خلال استفادة التجار الأغنياء من بعض الامتيازات التي تمنحها السلطات السياسية لهم، والتي أدت إلى تحقيق تراكم رأسمالي كبير وتأسيس شركات تجارية احتكارية قادرة على إخراج نشاطاتها التجارية من حدود القارة الأوروبية واستغلال الثروات لدى المجتمعات الآسيوية والأمريكية والإفريقية عبر التجارة غير المتكافئة.
ولا تخفى الدرجة التي وصل إليها الانحطاط الأخلاقي في المجتمعات الأوروبية متمثلة في الرأسمالية المالية والتجارية وما أدى إليه هذا الانحطاط من تدهور في أوضاع الفلاحين المقيمين في الريف والعمال والحرفيين الذين توجهوا نحو المدن معتمدين في نشاطاتهم على توسيع دائرة الإنتاج لغرض التبادل عوضاً عن دائرة الإنتاج التي تستهدف تلبية الحاجات والطلبات الموجودة أصلاً.
إن هذه التغيرات في واقع الشرائح الاجتماعية هي ناتجة بالضرورة عن تغيير نزعات المنتجين كما يراها بول سويزي، حيث أصبح من الممكن والمشروع، الطموح إلى تكوين الثروات الطائلة التي يرى التجار أنها لن تتحقق إلا بتوسع التجارة بشكل لولبي.
ومن الأهمية بمكان التعرف على الأفكار الاقتصادية التي ولدت في ظل التوسع الأوربي لاستغلال الأطراف العالمية لصالح المركز الرأسمالي، من أجل الدخول إلى مستوى عمق القضايا التي تعاني منها المجتمعات البشرية على امتداد الكرة الأرضية، وذلك من منطلق أن تلك النظريات أدت إلى تكثيف جهود الاستغلاليين للخروج بمخرجات تمنحهم الشرعية في استغلالهم سواء على صعيد المركز الرأسمالي أو على صعيد الدول الأطراف التي تشكلت وتطورت بشكل قزمي نتيجة غياب فعالية الإرادة المحلية في عمليات التنمية مقابل تزايد فعالية الوصفات الخارجية لتحديد مساراتها التنموية.
وتؤكد النظريات الاقتصادوية الرأسمالية على حقيقة ضعف الإنجاز العلمي على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، باعتبار أنها تنظر إلى التطور عبر زوايا محددة، وعبر كونها ظواهر جزئية منفصلة عن بعضها. فنجد مثلاً أن روبرت سي آلن يعزو التخلف إلى أسباب لا علاقة لها بحقيقة الاستغلال الممارس من قبل الرأسمالية الأوروبية، بل إنه يرى بأن التخلف يعود إلى عوامل جغرافية أو مؤسسية أو بشرية، فالملاريا يعوق التنمية والتطور في أفريقيا الاستوائية، ومناجم الفحم تساهم في تحقيق التطور في بريطانيا وتلعب دوراً أساسياً في انطلاق الثورة الصناعية، كما يرى ماكس ويبر أن المذهب البروتستانتي جعل سكان أوروبا الشمالية أكثر عقلانية وجديدة في العمل من غيرهم، دون أن يرى الاثنان أن الصناعوية التي انطلقت من بريطانيا قد أدت إلى تغيير منظومة العلاقات الاجتماعية إلى منظومة استغلالية قوية ومدعومة بنظريات اقتصادية قادها ممثلو مصلحة الرأسمالية الأوروبية.
ولا شك أننا لا نلغي بتحليلنا هذا دور المنظومة الفكرية في رسم ملامح التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويحتاج هذا الأمر إلى دراسة نظرية متماسكة ومتكاملة لإعادة صياغة العلاقات القائمة منذ ظهور النهج الاستغلالي والفكر الذي وجه نحو ترسيخ ذلك المنهج، وخاصة بعد ولادة المنظومة الرأسمالية الأوروبية على أنقاض الإقطاعية.
انطلاقاً من ذلك نرى أن التحليل الصحيح لظاهرة التطور على جميع الأصعدة يفرض على الباحث أن ينظر إليه على أنه كل متكامل لا يجوز تجزئته على اعتبار أن التجزئة في هذا المجال تؤدي إلى إضعاف فهم الجوانب المؤثرة على الظواهر وتحويلها من الحالة الحقيقية إلى الحالة المخبرية التي لا تصلح إلا للعلوم البحتة كالفيزياء والكيمياء.