الرقة – نورث برس
هي ليست حفلة زجل ما بين نهرين ومؤرخين الأول ينحاز إلى نهر “الفرات” والثاني ينحاز إلى نهر “البليخ”. كلاهما مؤرخ ولكل منهما هواه الذي لا يغير لا من مسار النهر ولا مجراه.
إنهما المدون عبد الرزاق العباس (70 عاماً)، أما الثاني فهو الباحث الآثاري محمد العزو، دارس الآثار ومؤرخ من مؤرخي الرقة السورية.
حينما تنتزع الشهرة
مدينة النهرين، الواقعة شمال شرق سوريا، وقد عبرها نهر الفرات، وأحاط بها من الجهة الغربية والجنوبية، أما نهرها الآخر، فهو نهر البليخ، والذي يصب في الفرات عند قرية رقة سمرا شرقي الرقة خمس كيلومترات.
وثمة من يرى أن “الفرات” قد انتزع من “البليخ” شهرته ونجوميته، ولم يحظ كما “الفرات” بالقصائد والأغاني والأشعار، فهو رافد من روافد نهر الفرات في سوريا.
وينبع النهر من قرية عين العروس جنوب مدينة تل أبيض، بالقرب من الحدود السورية التركية ويبلغ طوله 110 كيلومترات.
أما نهر الفرات ويعد من الأنهار الكبرى في العالم، فينبع من داخل الأراضي التركية ماراً بجبال الأناضول ليدخل بعدها إلى الأراضي السورية عند جرابلس شمالي حلب.
ويغادر النهر سوريا عند البوكمال على الحدود مع العراق مستكملاً مساره إلى شط العرب في الخليج حيث مصبه، ويبلغ طول الفرات 2780كم.
“التراث الشعبي الرقاوي يحتفي بنهر الفرات كثيراً، بالمقابل ليس هناك أي أغنية، أو موروث غنائي شعبي، أو قول سائد عن نهر البليخ” هذا ما يقوله عبد الرزاق العباس أبرز مدوني التراث الشفوي في الرقة وأهم رواة تاريخها.
ويذهب “العباس” بعيداً في تبيان الفوارق ما بين النهرين، والأسباب التي مكّنت الأول من الثاني ولعل شهرة الفرات قد تولدت بسبب ذكره في حديث نبوي، فيما لم يأت رسول الإسلام وهو ما لم يحظ به البليخ.
ويروى عن النبي محمد أنه ” لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب.”، ذاك كلام لرسول الله نقله أبي هريرة، وأكده أبو داود وإن بصيغة أخرى.
ورواه عبد الله بن الحارث بن نوفل وقد قال: “كنت واقفاً مع أبي بن كعب، فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا؟ قلت: أجل، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون”،
ويقول المؤرخ: “هكذا ارتبط الفرات بالقيامة بخراب الأرض وظهور الذهب.”
نهر “مخرب”
ويذهب المدون الرقاوي عبد الرزاق العباس بعيداً في تبيان الفوارق مستنداً إلى الحديث النبوي، غير أنه كما عرف الفرات، عرف البليخ كذلك، فهو ومنذ صغره، وأبناء جيله في قرية رقة سمرا، طالما سبحوا في كلا النهرين، وتحديداً عند نقطة مصب البليخ، قاطعين مسافة تتجاوز الكيلو مترين ليغطسوا في مياهه.
وكانت هذه الرحلة تبدأ من رقة سمرا غرباً، إلى قرية رطلة، الواقعة قبالة الرقة سمرا في الضفة المقابلة اليمنى لنهر الفرات، ومنذ ذلك الوقت، وحتى اليوم مازال البليخ يحافظ على عرض لا يتجاوز عشرين متراً، طبقاً لـ”عباس”.
وعندما كان يفيض نهر البليخ، في ربيع كل عام، كان يدمر مزروعات أهالي قرية رقة سمرا خاصة حينما يرتفع معدل هطول الأمطار في منطقة شمالي الرقة.
يصف العباس البليخ في تلك الفترة بأنه “مخرب”، ويقول: “حينها كان يضاهي في امتداده امتداد نهر الفرات، ولكنه منذ فترة طويلة لم يعد يفيض كما السابق، فهو مستقر في مجراه الآن.”
ويقول إنه بعكس الفرات لايوجد على البليخ أي مشروع ري، ولا يستفاد من مياهه في الشرب، بسبب شدة عكارتها، ويلجأ ملاكو الأراضي الزراعية على ضفتيه لاستجرار المياه منه لسقاية مزروعاتهم، من القمح والشعير والقطن والذرة الصفراء، عن طريق محركات الديزل.
وجهة نظر أخرى
لمحمد العزو الباحث الآثاري والحاصل على درجة الماجستير في الآثار وجهة نظر مختلفة بشأن الثقافة التاريخية المكونة حول البليخ، وشهرته في الحضارات القديمة التي كانت تستوطن في المنطقة.
ويستند “العزو” إلى مراجع علمية ودراسات تاريخية بحثية ونتائج التنقيبات الأثرية التي توقفت في الرقة نتيجة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على المدينة في العام 2014.
ويرجع العزو، أسباب تجذر ثقافة البليخ وعلو كعبها في تلك العصور السحيقة، إلى كون البليخ، نهر كثير التعرجات والمنحنيات.
وهذا ما أدى إلى التخفيف من حدة فيضاناته، وبالتالي لم يدمر الحواضر الممتدة على ضفتيه، فهو بعكس الفرات الذي كانت فيضاناته مدمرة وكارثية بسبب امتداده الكبير، على حد قول العزو.
وقال الباحث إن التلال الأثرية الممتدة على ضفتي نهر البليخ، قديمة، ويعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الألفية الرابع قبل الميلاد.
ويشتهر منها تل زيدان الواقع بمحاذاة نهر البليخ أعلى الرقة السمرا، ويرجح العزو كثافة الاستيطان البشري الذي كان موجوداً عند تل زيدان، إلى نهر البليخ وقد تمخض عنه أيضاً استيطان بشري في مدينة الرقة في فترة العهد اليوناني.
وبحسب العزو، فإن “البشر الذين كانوا يسكنون في تل زيدان الأثري، انتقلوا في بداية حقبة الثلاثة آلاف قبل الميلاد، إلى تل البيعة، الواقع غربي البليخ بالقرب من مدينة الرقة، والمعروف تاريخياً باسم مدينة توتول، أو تتل المنسوبة للإله دجن، إله الخصب، والخير والعطاء والواقع غربي تل زيدان/3/ كم.”
تشبث بالقديم
جرت العادة أن يستخدم سكان القرى المحاذية لضفتي البليخ، والقريبة من مركز مدينة الرقة، اللُبن في بناء منازلهم الطينية، إذ يقومون في صيف كل عام بتحضيره بطريقة بدائية، ثم إعداده على شكل قطع صغيرة، ليتم تجفيفها تحت أشعة الشمس.
وبالرغم من تغير أساليب البناء في البلاد إلا أن عبد الله المحمد (30 عاماً) من منطقة البليخ، مثله مثل سكان هذه المنطقة ما يزال يتعاون مع مجموعة من أصدقائه في تجهيز منزل طيني له، بالقرب من تل زيدان الأثري، المحاذي للبليخ.
ويقول المحمد لـ نورث برس”منذ القدم، يقوم أجدادنا ببناء البيوت الطينية على ضفتي البليخ، يجلبون الماء من النهر، ثم يضيفونها إلى التراب الذي يكون معداً مسبقاً.
ويقول أيضاً: “سنعود إلى بناء الطين” ويحيل ذلك إلى غلاء سعر الإسمنت وبقية مواد البناء.
لكن هناك من بين أصدقاء “المحمد” من يعزي الأمر لأسباب أخرى، ويقول: “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين.”