“هات طحينك وخذ سلالي”.. غجر عفرين يتشبثون بأساليب حياتهم الخاصة
ريف حلب الشمالي – نورث برس
لغجر عفرين شمال غربي سوريا صلة بالمكان، بل امتداد في مكان لم ينتزع منهم خصوصيتهم، فبالرغم من النزوح القسري والأسى ما يزالون يتشبثون بأساليب ومهن وفق نمط حياة عاشها آبائهم.
ويتحدر غجر عفرين من سهول مرعش جنوبي تركيا، لكن بسبب نشوب حروب بين العشائر خلال العقود الماضية، ارتحل العديد منهم باتجاه عفرين والعراق حتى بلغ عددهم في عفرين نحو /2500/ نسمة بحسب إحصاءات غير رسمية.
وتتفاوت تسميات الغجر في المناطق السورية، فيطلق عليهم البعض تسمية “دوم”، حيث تختلف التسمية باختلاف المناطق داخل سوريا.
ومع اختلاف الأسماء، يتوحد الغجر على كونهم شريحة مهمّشة تعاني من التمييز العنصري والأحكام المسبقة رغم تاريخهم الضارب في القدم، وغالباً ما يتم استبعادهم عن حياة المجتمع.
ومع الاجتياح التركي لعفرين في آذار/مارس 2018، احتمى غجرها بمخيم “عفرين” في المساحة التي خصصتها الإدارة الذاتية لهم، حيث تضمّ /99/ خيمة وبتعداد /403/ أشخاص بحسب إحصاءات هيئة الشؤون الاجتماعية لإقليم عفرين.
وغجر سوريا هم مجموعة سكانية يطلقون على أنفسهم باللغة الدومية اسم “دوم” أو “ضوم”، وجرى لهؤلاء الـ”دوم”، ما جرى للسوريين، فقد باتوا اليوم يكتبون صفحة صعبة من أيامهم بسبب الحروب والصراعات.
وتشرّد الغجر في عفرين كما سواهم، حاملين معهم مناخلهم وطبولهم وأقفاص العصافير وحصائر القصب، “بحثاً عن فضاءات جديدة لممارسة مهنتهم التاريخية.”
إلى أين رحل الرحّالون؟
ما من إحصاءات تفيد بالأمكنة التي رحل الغجر إليها منذ اندلاع الحرب في سوريا، باستثناء احصائيات غير دقيقة تفيد بأن نحو عشرة آلاف منهم لجؤوا إلى رها جنوبي تركيا.
لكن تقارير تشير إلى أن معظم الدول المجاورة لسوريا “لم ترغب أبداً” في إيواء اللاجئين من الغجر.
وتتحدث هذه التقارير عن أن الغجر أخفوا، في بداية النزوح، هويتهم في المخيمات حتى لا يتمّ استبعادهم.
ولكن “بحكم نزعتهم إلى حرية التحرك والتنقل، كان من المستحيل احتجازهم في مكان محدّد.”
وبالرغم من هذا الوضع، سعى الغجر إلى اللجوء لأماكن استقرت فيها أسرهم من قبلهم، في لبنان وتركيا والأردن، وثمة جزء منهم يعيش اليوم في مخيمات عفرين.
نكبة المواشي
خلال عقود سابقة، كانت عشيرة عبد العزيز حنان (55 عاماً) الغجرية تملك “الآلاف” من رؤوس المواشي من أغنام وماعز وأبقار وخيول ويسكن أفرادها في خيم مصنوعة من شعر الماعز.
يقول عبد العزيز: “كانوا يسموننا كواجر الخيم السوداء، ذلك أننا ننقل خيامنا في الصيف إلى أعالي جبال هاوار في تركيا وفي الشتاء ننزل إلى سهول قرية سوركه في مدينة عفرين وغيرها من سهول فلم يكن هنالك حدود بين سوريا وتركيا.”
ويذكر أن قسماً من الغجر هجروا مهنة الرعي بعد أن نفقت أعداد كبيرة من المواشي والأبقار في عام 1910-1911 “إثر هطول الثلوج لمدة أربعين يوماً متواصلة ما أدى إلى نفوق الآلاف من المواشي.”
لم تكن تلك كارثتهم الأولى، فقد سبق أن واجهت هذه المجموعة ما يشبه التهجير القسري، ففي عام 1958، أثناء قيام الوحدة بين سوريا ومصر، تشير التقارير إلى أن جمال عبد الناصر اتبع “سياسة التعريب” تجاه المكوّنات غير العربية في سوريا وأجبر الغجر على التوجه للعيش ضمن القرى والمدن.
وقال “حنان” إن ذلك جرى “بحجة” منع الرعي الجائر، لذلك اضطر أجداده إلى ترك حياة الترحال والرعي واتجهوا نحو الاستقرار في القرى ومدينة عفرين.”
ويمتهن رجال غجر عفرين صناعة الأسنان والآلات الموسيقية كالبزق والدف والعزف عليها، لكن ليس ذلك فحسب بل كان عليهم أن يحييوا حفلات الزفاف وأسمار الليالي.
“في ليالينا، كنا نسرد قصص أبطالنا من مثل طاهر بيك ومم آلان.”
سرّ البقاء
يجيب عبد العزيز عن سؤال حول سبب استمرارية الغجر وكيفية المحافظة على وجودهم: “أردنا الاندماج مع باقي عائلات وعشائر المنطقة إلاّ إنهم امتنعوا عن الاختلاط معنا ولم يتقبّلوا الزواج من فتياتنا.”
ويضيف: “ينظرون إلينا على أننا عشائر رُحَّل ولهذا بقينا محافظين على خصوصياتنا.”
وبسبب ذلك، حافظ غجر عفرين على “انغلاقهم” فيما بينهم، فهم معروفون من قبل سكان منطقة عفرين بأنهم يقومون بحل مشكلاتهم فيما بينهم، بالتسيير الذاتي، بلا قضاء ولا محاكم ولا حكومات، ولا يحتكمون في فضّ نزاعاتهم إلى أحد من الخارج.
وامتهنوا بالإضافة لما سبق أعمالاً تتوافق مع نمط الحياة الحضرية فامتهنت النساء الزراعة و صناعة سلال القصب (قاموش).
وتقول نازلية محمد(53عاماً) وهي من غجر عفرين: “عملنا في الزراعة وقطاف الخضار والقطن والشوندر في القرى وبعدها انتقلنا إلى العيش في عفرين، كنا نشتغل كذلك في صناعة السلال.”
أصول الغجر
ليس الغجر “بقايا شعب ولا أقلية أو طائفة ولا أتباع ديانة منسيّة. إنهم جماعة واحدة هاجرت في الأصل من شمال الهند ثم انقسمت إلى جماعات مختلفة” بحسب مصادر تاريخية مختلفة.
وليس للغجر هوية توحّدهم ولا قومية تجمعهم، ولا وطن يحلمون بسيادته أو بالعودة إليه يوماً. أصولهم هي “تقاليدهم وعاداتهم.”
وآمن الغجر أن الأرض كلها هي موطنهم وأن الترحال المستمر شكل من أشكال تعبيرهم عن “محبة ذلك الوطن.”
تقول الكاتبة الأميركية، إيزابيل فونسيكا: “ليس للغجر أبطال ولا أساطير عن التحرر العظيم ولا عن تأسيس الأمة أو الأرض الموعودة.”
وينتشر الغجر في لبنان، وسوريا، والعراق، وتركيا، كما في أوروبا بدءاً من رومانيا، ويوغوسلافيا، والتشيك، وبولونيا، وإسبانيا.
ففي إسبانيا وأنت في الطريق إلى قصر الحمراء، لا بد أن تسمع “موسيقاهم العظيمة” وتستمتع برقصاتهم التي تشبه الطيران.
وتشتهر في إسبانيا عبارة: “إياك أن تتحرش بامرأة غجرية.. إذا ما حدث ذلك فقد تتعرض لغرزة سكين في خاصرتك.”
وفي لبنان، إبان الحرب الأهلية، حصدت الحرب عدداً من غجر حي الوطى، نجا حينها صبي عذب الصوت بات اليوم واحداً من ألمع نجوم الغناء، إنه المغني بلال، الذي انتقل من ماسح أحذية إلى نجم تتخاطفه الأضواء وتتسابق دور الأزياء إلى تقديم أحذية تليق بأقدامه الراقصة في المسارح الكبرى.
“هات طحينك وخذ سلّتي”
تتحدث “محمد” عن مهنة صناعة السلال المتوارثة أماً عن جدة: “كنا نحضر الـ’قاموش’ من حول نهر عفرين ونقوم بالتنقل بين القرى نصنع لهم السلال ونقايضها بالطحين والبرغل أو أشياء أخرى، لم نكن نتعامل بالعملات.”
وتضيف: “أحضرنا جذور الـ’قاموش’ من حول سكة الأحداث وقمنا بزراعتها حول خيامنا لنتفيأ بظلها وأنا الآن أقضي وقتي في صناعة السلال.”
لكنها تقول إنه ليس هناك طلب كثير على السلال الآن، ومع ذلك “نحرص على الحفاظ على هذه المهنة. في السابق، لم تكن لدينا برادات ولذلك كنا نحفظ الأطعمة والخضروات صيفاً في هذه السلال لئلا تفسد.”
ما زال الكثير من عادات هؤلاء الغجر وتقاليدهم محفوظة حتى اللحظة، وإن تاهوا منك تدلّك عليهم وشومهم.. وشوم على الأكفِّ والسواعد والأنوف، بخبرة مدهشة يرسمون مصائرهم على جلودهم.
تقول نازلية سليمان (77عاماً) التي تملك وشماً جميلاً على جبينها وشفتيها: “حصلت على وشمي هذا منذ أن كنت صغيرة ولا أتذكر متى قامت أمي بوشمي. الوشم دليل على أننا كواجر أشداء.”
وليس من الغريب أن تجعل أطوار الغجر ونمط حياتهم المتميز منهم شخصيات روائية خصبة لدى الكثير من الكتّاب والأدباء، مثل غابريال غارسيا ماركيز الذي خلق شخصية ميلكيادس في روايته الأشهر “مئة عام من العزلة” وفيكتور هوغو الذي استعار بطلي رائعته “أحدب نوتردام” كازيمودو وأزميرلدا من هؤلاء الغجر الموسومين بإطلاق الخيال.
لا يعرف الغجري مفردات من قبيل المواطنة، الدولة، سلطة القانون. وحين تسأله: من أين أنت؟ فسيجيبك بالتأكيد كما أجابت الأميركية فونسيكا: “وطني في أي مكان، كل مكان يمكن أن يكون وطناً لي.”