غرفة "الأصدقاء".. هجّرت الحرب أصحابها فآوت مهجرين من سري كانيه
تل تمر – دلسوز يوسف – نورث برس
أمام غرفة متهالكة في قرية تل نصري التي تأوي مئات المهجرين بريف مدينة الحسكة الشمالي، يجلس خضر أحمد (45 عاماً)، أحد مهجري ريف سري كانيه/ رأس العين، أمام غرفة تأوي عائلته، متأملاً المارة في الشارع.
ويقيم الأب مع ثمانية أفراد من أسرته، بينهم فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة، في وضع معيشي متردٍّ بانتظار العودة إلى دياره يوماً ما، فيما تذكّره كلمة " Friends"، المكتوبة على جدار الغرفة من الخارج، بشباب القرية الآشورية الذين هجرتهم الحرب.
ولم يبق من أهالي تل نصري التي تبعد نحو /1 كم/ جنوب بلدة تل تمر، سوى بضعة أشخاص بعد اضطرار الباقين للهجرة بعد هجمات تنظيم "الدولة الاسلامية" (داعش) على ريف بلدة تل تمر في شباط/ فبراير 2015.
وتحولت العديد من القرى الأشورية إلى مأوى للمئات من مهجري منطقة عفرين إبان سيطرة الجيش التركي والفصائل التابعة له عليها خلال أذار/ مارس من العام 2018، كما استقبلت الآلاف من مهجري منطقة سري كانيه وريفها بعد الهجوم التركي الأخير أواخر العام 2019.
الحرب مجدداً
لم يكن خضر يتخيل أن تتحول منطقته الحدودية قبل أشهر لساحة حرب مجدداً، بعد أن شهدت تعاقب للفصائل المسلحة كان آخرها تنظيم (داعش) الذي هُزِمَ أمام قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن منذ أربعة أعوام.
ويتذكر يوم نزوحه من قريته الحدودية "مشرافة" بريف سري كانيه، "سقطت قذيفة بالقرب من منزلي ولحسن الحظ لم يصبنا مكروه، فاضطررنا للهرب من القصف وترك كل شيء وراءنا (..) وبعد أن صرت على تخوم القرية، دُمّر منزلي وسُوّي بالأرض أمام ناظري".
خرج أحمد من قريته تاركاً خلفه منزلاً مدمراً دفع شقاء عمره لبنائه، ليبدأ رحلة نزوح نحو المجهول بحثاً عن ملاذ آمن، استخدم سيارة الأجرة التي كان يعمل عليها سائقاً والتي تعود ملكيتها لشخص آخر، إلا أنه سلم السيارة لصاحبها بعد أن وصل إلى بلدة تل تمر (35 كم) جنوب سري كانيه، ليفقد بذلك آخر مصدر رزق ويبقى عاطلاً عن العمل.
المنزل/ الغرفة
بعد أربعة أشهر من وصولها إلى قرية "تل حفيان" بريف تل تمر، قرر صاحب البيت الذي استأجرته العائلة النازحة بيع المنزل، لكن وبسبب ضيق الحال لم يتمكن أحمد من استئجار منزل آخر، فانتهى به المطاف في غرفة بقرية "تل نصري" الآشورية.
وتبلغ مساحة الغرفة قرابة /15/ متراً مربعاً، دون توفر أي تجهيزات، أعطاه الجيران باباً، فيما لجأ إلى سدّ جزء من النافذة بحجارة وغطاها بقطعة قماش، كما عمد إلى سد الفجوات والثقوب الموجودة في جدران الغرفة بالطين لمنع تسرب مياه الأمطار، وذلك بعد أن طالتها شظايا القذائف والرصاص أثناء المعارك بين وحدات حماية الشعب وتنظيم "داعش" قبل خمس سنوات.
يقول: "خلال الشتاء كانت المياه تتسرب إلى الغرفة، ولم يكن أمامنا سوى أن نسد الشباك بالنايلون".
طفل عامل وأخرى مريضة
ويعمل ابنه الأكبر، البالغ /16/ عاماً، لدى أصحاب المهن في المنطقة من أجل تأمين احتياجات العائلة، بالإضافة لمساعدات قليلة من الجيران وفي غياب كلي للمنظمات بحسب ما يقول أحمد.
" حتى الأغطية قدمها لنا الجيران.. عندما يريد أحد منا الاستحمام يخرج الجميع إلى الخارج، وأثناء النوم نفترش الأرض وينام بعضنا بالقرب من الباب لعدم اتساع المكان للجميع".
خارج الغرفة التي لا تبعد كثيراً عن الطريق العام، يدفع أحمد ابنته، التي تعاني من شلل دماغي منذ الولادة، على كرسي متحرك ليتمشى معها قليلاً، هي بحاجة للرعاية بشكل مستمر إلا إنه لا يستطيع تأمين ذلك بسبب وضعه المعيشي.
ويوفر مشفى "الشهيدة ليكرين" بتل تمر التابع للإدارة الذاتية الفحوصات الطبية والأدوية مجاناً للطفلة، لكن الوالد يتحسر على حالها وسط ظروفه القاسية، "أخذتها سابقاً إلى الكثير من الأطباء لكن دون جدوى".
العودة
وتسببت هجمات الجيش التركي وفصائل المعارضة المسلحة على مدينة سري كانيه/ رأس العين في تشرين الأول /أكتوبر من العام 2010، بنزوح أربعة آلاف عائلة وفق إحصائية لمكتب شؤون المنظمات في إقليم الجزيرة، حيث يقطن نصف أفرادها في مخيمين في الحسكة وديريك، في حين قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، إن الإعدامات ونهب أموال وأملاك السكان الكرد أدلة لا تقبل الشك على أن المنطقة التي أقامتها تركيا "غير محمية وغير آمنة".
ورغم أن المنظمة الدولية أكدت أن الجيش التركي والفصائل المعارضة يستهدفون المواطنين الكرد بالدرجة الأولى، إلا أن خضر أحمد، وهو مواطن عربي، يؤكد أنه لا يضمن حياته في حال قرر العودة إلى دياره "بسبب وحشية ممارساتهم".
"سبق وأن عاد جيراني وأصدقائي إلى المدينة، لكن تم اعتقالهم تحت حجج واهية وأفرجوا عنهم مقابل دفع فدى مالية بعد إهانتهم وضربهم، إن عدت واعتقلت من سيدفع المال كي يفرجوا عني؟".
الأصدقاء
وتعد قرية تل نصري من أكبر القرى الآشورية في المنطقة، وكانت تعج قبيل الحرب في سوريا بسكانها من موظفين ومزارعين، ولكن مع هجمات تنظيم "الدولة الاسلامية" وتدمير عشرات المنازل وكنيسة القرية، هجَرَ أغلب سكانها ولم يبقَ منهم سوى القليل من الأشخاص.
ولا تزال آثار الدمار واضحة جداً في هذه القرية، كما الحال بالنسبة للغرفة التي يسكنها أحمد وعائلته، جدران مليئة بالثقوب جراء المعارك، فيما تبقى كلمة "Friend" المكتوبة بالطلاء الأحمر في الخارج عنواناً يؤرخ اجتماع شباب من سكان القرية للسمر كل مساء.
يقول أحمد أنه يشعر بهؤلاء "الأصدقاء" الذين أجبرتهم الحرب على هجر قريتهم، "هم مثلنا بانتظار انتهاء الحرب للعودة إلى قريتهم ومكان اجتماعهم هنا، ونحن نحترق شوقاً للعودة إلى ديارنا (..) أريد العودة حتى ولو كان تحت خيمة في مكان منزلي المدمر".