تحولت منطقة شرق الفرات إلى ساحة صراع بين القوى الدولية والإقليمية المعنيّة بالأزمة السورية، إذ تتزاحم هذه الدول على إقامة قواعد ومراكز ومقار عسكرية فيها، وتتسارع إلى عقد تحالفات مع القوى السياسية والحزبية والمكونات الاجتماعية (القبائل والعشائر) هناك، بحثاً عن خرائط السيطرة والنفوذ والتحكم بالمقدّرات، واللافت في خضمّ هذا التنافس المحموم، هو حدة التناقض بين أجندات هذه الدول، والتخبط في السياسات، والاستعداد الدائم لعقد الصفقات والتفاهمات والتحالفات بل والإنقلاب عليها، وعدم الوضوح في الاستراتيجيات، وهو ما يترك حالة دائمة من عدم الاستقرار في المنطقة، وسط قلق من قرارات مفاجئة أو تطور عسكري من قبل هذا الطرف أو ذاك، ولا سيما تركيا التي قامت بسلسلة عمليات عدوانية ضد شمالي سوريا وشرقها خلال السنوات القليلة الماضية.
على وقع هذا المشهد القلق، يشتد الكباش الروسي-الأميركي على مستقبل المنطقة، وفي زحمة هذا الكباش، يحاول الروسي استغلال كل أوراقه للتحكم بمصير منطقة شرق الفرات في وقت باتت فيه هذه المنطقة مادة مهمة في معركة السباق إلى البيت الأبيض. وبسبب هذا الكباش الجاري، بدت المنطقة خلال الأيام القليلة الماضية، أمام جملة من التطورات والتسريبات والمعطيات التي ربما توحي بمرحلة غامضة، ولعلَّ من هذه التطورات والتسريبات :
- التسريبات الروسية عن استعداد روسي للانسحاب من شرق الفرات، وهي تسريبات تتكامل مع التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية، سيرغي لافروف، بأن العمليات العسكرية الكبرى في إدلب انتهت دون الإشارة إلى شرق الفرات، مع أن تصريحاته بخصوص إدلب تتناقض والحديث الروسي عن مواصلة محاربة التنظيمات الإرهابية هناك وعلى رأسها جبهة النصرة. فما الذي يقف وراء هذه التصريحات والتسريبات؟ في الواقع، يمكن القول إن الذي يقف وراء هذه التصريحات والتسريبات سببان: الأول، رسالة للإدارة الأميركية عقب زيارة المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، إلى المنطقة، مفادها أن موسكو لن تقبل بتشكيل أي مرجعية سياسية في شرق الفرات دون التفاهم معها على شكل الترتيبات في المنطقة، وأخذ مصالحها بعين الاعتبار، ولعلَّ هذا ما يفسر حرصها على مد جسور العلاقة مع القوى السياسية هناك ودعوتها إلى موسكو لبناء تفاهمات، والثاني، أن هذه التسريبات والتصريحات تأتي في إطار ممارسة الضغوط على الإدارة الذاتية في شرق الفرات وابتزازها، بهدف التجاوب مع خططها في شرق الفرات ولا سيما بعد المناوشات التي جرت بين القوات الروسية والأميركية في أكثر من منطقة في محافظة حسكة. وعليه، يمكن القول إن التسريبات الروسية ليست أكثر من مناورة سياسية صعبة، خاصةً وأن هدف روسيا هو السيطرة على كامل المنطقة، ولا سيما المعابر الحدودية مع العراق لقطع الطريق أمام الإمدادات الأميركية، وهذا يتناقض تماماً مع الحديث الروسي عن الانسحاب من تلك المنطقة.
- الرسالة الأميركية من زيارة جيمس جيفري إلى شرق الفرات، إذ ثمة من يعتقد أنها من أجل المصالحة الكردية-الكردية، وتشكيل مرجعية عليا هناك. أجزم بأن من يفكر بهذه الطريقة لا يفهم حقيقة خفايا السياسة الأميركية ودوافعها، خاصةً وأن جيفري هو أكثر المسؤولين الأميركيين تحالفاً مع الرئيس التركي أردوغان، ومتفهماً لسياساته العدوانية تجاه شمال شرقي سوريا ولا سيما الكرد. وعليه، الهدف الحقيقي من وراء زيارة جيفري لم يكن التوصل إلى اتفاق كردي-كردي كما روّج في الإعلام، ولو كان ذلك لما اقتصرت الزيارة على ساعات قليلة ولقاءات أقرب إلى الشكلية، بل كان هدف الزيارة هو إرسال رسالة انتخابية إلى الداخل الأميركي، مفادها أن الرئيس ترامب لم يتخل عن الكرد ولم يخنهم، ومثل هذا الأمر له أهمية كبيرة في حملة ترامب الانتخابية ولا سيما بعد صدور كتاب جون بولتون الذي كشف فيه خفايا خيانة ترامب للكرد، وصفقاته مع أردوغان على حسابهم، وكيف أعطى له الضوء الأخضر لاحتلال المنطقة الممتدة من سري كانيه (رأس العين) إلى تل أبيض، وهو ما خلق رأياً عاماً غاضباً في الداخل الأميركي من سياسة ترامب تجاه الكرد الذين كان لهم الفضل بقيادة قوات سوريا الديمقراطية في إلحاق الهزيمة بداعش.
- وسط هذا الكباش الأميركي-الروسي، يتحرك اللاعب التركي المأزوم بسبب تورطه في العديد من الأزمات الاقليمية، ويحاول الاستفادة من الفترة التي تسبق الانتخابات بعقد صفقات جديدة ولا سيما مع روسيا، وعليه جرى الترويج لفكرة الانسحاب من مناطق في جنوب إدلب مقابل السيطرة على منبج وتل رفعت، وهي فكرة روّجت لها حتى موسكو إعلاميا علماً أنها أعلنت رفضها لمثل هذه الصفقة، وهو ما يعني أن مبدأ الصفقات ما زال قائماً في سياسات الدول الكبرى تجاه شمالي سوريا وشرقها، رغم كل الحديث عن ضرورة استمرار صيغة مناطق خفض التصعيد ومسار أستانا، ولعلَّ في حسابات الرفض الروسي أخذ عوامل أخرى بعين الاعتبار، أهمها دور إيران والنظام والكرد في منطقة تل رفعت بشكل أساسي ومنبج بدرجة أقل. إذ أن روسيا لا تريد في النهاية خسارة مصداقيتها جراء صفقة لا تبدو مجدية في الحسابات السياسية، وما يهمها في المرحلة الحالية هو هو تأمين الطريق الدولي (M4).
- في زحمة هذا الصراع والكباش، تبقي إيران عيونها مفتوحة على منطقتين استراتيجيتين، الأولى: منطقة دير الزور حيث تحشد هناك استعداداُ لمعركة محتملة في شرق الفرات ولا سيما إذا طرأت تطورات على سياسة الإدارة الأميركية، والثانية: إدلب التي تبقى معركة مركبة لها أبعاد سياسية وطائفية واقتصادية في معادلة التنافس مع تركيا على كيفية حل الأزمة السورية.
في جميع الأحوال، من الآن إلى حين الانتخابات الأميركية، تبقى الأنظار مشدودة إلى شرق الفرات وأي تطور قد يحصل هناك، على شكل استنزاف للجميع في معركة تأخذ شكل صراع الإرادات لتحديد مستقبل المنطقة في مرحلة ما بعد قدوم إدارة أميركية جديدة، ويبقى المهم حتى ذلك الوقت، هو الصبر استراتيجيةً، واستكمالاً لبناء مرجعية ومؤسساتها، تجنباً لأي تطور غير محسوب، خاصةً وأن ثمة جهوداً إقليمية تجري على قدم وساق لتفجير المنطقة من الداخل عبر نسج فتن بين مكوناتها على أمل السيطرة عليها لاحقاً.