صناديق الاقتراع تُفتح أمام حرب حامية الوطيس لحسم بلدية إسطنبول

إسطنبول – NPA
صمتت مكبرات الصوت التي كانت تتجول في شوارع إسطنبول وهي تصدح بالأغاني التي تبث الدعاية الانتخابية لكل من مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم أمام أوغلو ومنافسه المسند من حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم، لتشرع صناديق الاقتراع عن أبوابها أمام الناخبين صبيحة هذا اليوم من أجل حسم المعركة المصيرية التي طال انتظارها، وذلك في الجولة الثانية من عملية إعادة الانتخابات للظفر برئاسة بلدية أكبر المدن التركية.
مدينة إسطنبول التي يزيد عدد سكانها عن /16/ مليون نسمة وتشكل بثقلها الحيوي ثلث الاقتصاد الوطني التركي، ستكون شاهدة على معركة حامية الوطيس، يشارك فيها حوالي /10/ مليون ناخب بغية حسم المعركة الانتخابية.
“من يخسر إسطنبول يخسر تركيا” هي جملة قالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذات مرة، ويبدو أن شبح هذه المقولة تراود مخيلة الأحزاب الإسلامية التي تسيطر منذ /25/ عاماً على البلدية التي فرشت الطريق السياسي أمام أردوغان.
ولا تزال خسارة مرشح حزب العدالة والتنمية الذي تعرض إلى هزيمة في 31 اذار/مارس الماضي على يد أمام أكرم أوغلو بفارق ضئيل، بمثابة انتكاسة نفسية مؤلمة هزت مصداقية العدالة والتنمية على مستوى البلاد، قبل أن تطعن اللجنة الانتخابية العليا بالنتائج التي فرزت حينها، وتأجل الحسم إلى جولة هذا اليوم.
أكرم أمام أوغلو البالغ من العمر 49 والذي يقدم نفسه على أنه منافس شرس لنفوذ أردوغان في تركيا، وصف من قبل بعض الوسائل الإعلامية بأنه قد ينعش الانسداد السياسي في تركيا، حيث يرفع أوغلو شعار”  كل شيء جميل.. وغداً سيكون أجمل “،  محملاً معه آمال الكتلة العلمانية الكمالية وتلك الأصوات المحافظة الساخطة على سياسة العدالة والتنمية، فضلاً عن تجسيد أصوات الطبقة العاملة التي تعاني من وطأة تراجع الاقتصاد التركي والبطالة، على آمل أن تكون أصوات قاعدة حزب الشعوب الديمقراطي بمثابة بيضة القبان لقلب الطاولة على بن علي يلدريم.
وبذلك تعمد أمام أوغلو خلال حملته الانتخابية أن يردم الفجوة بين القاعدة العلمانية التقليدية المناصرة لحزبه تاريخياً، وتلك الفئات المحافظة التي تجرعت الإحباط من سياسة أردوغان، ومناصري القومية الكردية المتذمرين من سياسة أردوغان وحليفه القومي التركي دولت باهجلي بسبب الحرب والاعتقال القسري اليومي.
وعلى النقيض من أمام أوغلو الذي كان شفافاً في برنامجه الانتخابي حيال مستقبل بلدية إسطنبول، وانتشار شعاره الانتخابي في الساحات العامة والمقاهي وملاعب كرة القدم وكتابات على الجدران، كان مسار بن علي يلدريم ضبابياً ومرتبكاً ولم يشفع له خطابه المرن في بداية حملته أن يبقى على نفس الوتيرة.
وكشفت استطلاعات الرأي نتائج سلبية ضد يلدريم، الأمر الذي أشعر أردوغان بالحاجة إلى تنظيم تجمعات بنفسه، على الرغم من قراره المبدئي بالبقاء وراء مرشح حزب العدالة والتنمية، وبالتالي حول اردوغان المعركة الانتخابية إلى قضية حياة اوموت.
أردوغان وفريقه حاولوا إعادة تقويم أخطائهم السابقة عبر نسخ حملة أمام أوغلو من خلال مخاطبة تلك الشرائح التي كانت قريبة من العدالة والتنمية ورفضت أن تدلي بأصواتها في الجولة الماضية. غير أن أردوغان الذي يخوض حرباً مفتوحاً ضد حزب الشعوب الديمقراطي والكتلة الكردية في تركيا منذ انهيار عملية السلام مع الزعيم الكردي المسجون في جزيرة إيمرالي عبد الله أوجلان، تيقن من خلال نتائج الانتخابات الماضية بأن الناخب الكردي الذي يشكل عدد أصواتها حوالي مليون ونصف في إسطنبول، سيكون عاملاً حاسماً في قلب طاولة الانتخابات، وبالتالي يجدر أن تنصب كل الجهود الانتخابية في الوقت المتبقي لجذب هذه القاعدة الانتخابية الحيوية ولو عن طريق تسخير المراوغات الشكلية والخطابات التي تضرب على وتر التعاطف القومي مع الاكراد.
تبعاً للتكتيك المتبع لدى فريق أردوغان، يمر طريق كسب هذه الأصوات من خلال حضور كاريزما وصوت عبد الله أوجلان الذي لديه تأثير كبير على توجهات الكتلة الكردية في تركيا، وعليه، حاول أردوغان ودولت باهجلي وجميع المؤسسات المحتكرة من قبل حزب العدالة والتنمية، استغلال رسالة أوجلان الأخيرة الذي بعث بها إلى حزب الشعوب الديمقراطي، مطالباً إياه بضرورة تبني “الخط الثالث” في ظل الاستقطاب الثنائي في الحياة السياسية التي تتنافس على السلطة والنفوذ، كما أكد أوجلان من خلال الرسالة التي نشرت من قبل محاميه أمام الرأي العام، بأهمية تجنب ربط النضال السياسي برمته بالعملية الانتخابية على بلدية إسطنبول، ولم يحسم أوجلان في سياق رسالته قرار مشاركة الحزب في عملية الاقتراع من عدمه، بل ترك باب مفتوح أمام قيادة الحزب.
وبدوره، كان قرار الحزب وفق بيان نشر للرأي العام بأنهم على “توافق التام مع أوجلان وسنحافظ على استراتيجيتنا السابقة”، وهو ما سبب الارتباك والفوضى في معسكر حزب العدالة والحركة القومية التركية خشية من إصرار الحزب لدعم مرشح الشعب الجمهوري.
وسارع كل من أردوغان وباهجلي بتفسير رسالة أوجلان كل بطريقته الخاصة، بغرض إحداث الارباك والتلاعب لدى قاعدة ” الشعوب الديمقراطي”. في الوقت الذي رد صلاح الدين دمرتاش من سجنه عبر تويتر بأن إعادة تأويل رسالة أوجلان لأغراض نفعية رخيصة هي محاولة بائسة وبعيدة عن المسؤولية الأخلاقية، وناشد القاعدة الشعبية بعدم الانجرار وراء سياسة “الحرب النفسية”، مشدداً في الوقت نفسه بأنه “بدون شك سأدعم اقتراحات أوجلان”.
أهمية انتخابات البلدية في إسطنبول لا تنحصر بنتائجها المحتملة بكسب منافع مادية لكلا الطرفين، ثمة مناخ سياسي حاد يضرب جذور الدولة التركية برمته على المستوى الداخلي والخارجي في هذا التوقيت الحرج، ومن المرجح أن تتوقف نسبياً بوصلة تداعيات التناقضات والأزمات التي تعيشها تركيا على النتائج الانتخابية المحتملة، فلم يكن هناك أي مؤشر على الانتعاش في اقتصاد البلاد منذ مارس/ آذار الماضي.
وتشهد تركيا في الوقت نفسه أزمة دبلوماسية مع الولايات المتحدة بشأن شراء الصواريخ الروسية، كما أن العقوبات الأمريكية على صادرات الطاقة الإيرانية أضرت تركيا بشدة، وتتصاعد التوترات مع قبرص واليونان في شرق البحر المتوسط يوما بعد يوم، مع إمكانية تعريض العلاقات مع الدول الأوروبية للخطر، فضلاً على أن موسكو حشرت أنقرة في زاوية ضيقة في منطقة إدلب السورية، مما قوض مصداقيتها مع المعارضة السورية المسلحة.   
لا يعرف أنصار حزب العدالة والتنمية ولا حزب الشعب الجمهوري كيف سيكون المشهد بعد فرز نتائج الانتخابات، على الرغم أن موجة الاحتجاجات تراجعت في الآونة الأخيرة عبر احتواء قوى الشرطة المحلية بعض الاحتجاجات في أماكن معينة، غير أن استبعاد خيار العنف ما بعد مشهد الانتخابات ليس بأمر محسوم، نظراً إلى تفشي حالة الاحتقان والاستقطاب بين مناصري الطرفين، سواء كسبت العدالة والتنمية أم تعرضت لانتكاسة جديدة، ستكون الخيارات مفتوحة، لا سيما في ظل وجود مليشيات مدنية مسلحة مدعومة بصورة مباشرة من حزب أردوغان، قد تتخذ خيار العنف في أية لحظة.