الحمّالون الكرد والأرمن

ليس معروفاً بالتحديد متى رسم سيمون هاكوبيان (توفي عام 1921) لوحته التي لم يكن لها عنوان ولم تتضمن تعريفاً بهويات الشخصيات المرسومة في اللوحة. وكحَلٍّ وسط عُرِفت في أوساط مؤرخي الفن بـ”حمّالون على جسر كادي كوي” بدلاً من التسمية الرسمية المشوّهة لأغراض قومية “حمّالون أتراك في إسطنبول”. نُشِرت اللوحة ضمن روزنامة عام 1912، وهو التقويم السنوي الرسمي، الشبيه بتقويم هذه الأيام في المضمون، مع وظائف إضافية، مثل المدّ والجزر وأوقات الزراعة.

والقطعة النادرة المحفوظة في متحف للفنون تعود لفنانٍ إشكالي الانتماء؛ أرمني القومية، مسيحي الدين، عثماني الدولة، ومن عائلة فقيرة في إسطنبول.

يُفترض أن اللوحة تروي قصة، أو قصصاً وفقاً للراوي طالما أنّ صاحب اللوحة اكتفى بالتصوير وصمت عمّا يريد قوله. وربما يكون المدخل الأنسب لوضع اللوحة ضمن حكاية سياسية، البدء من القصة الحقيقية للحمّالين في إسطنبول، وكيف باتت هذه الطبقة الفقيرة من العمال مؤشراً على حصيلة سياسات الدولة نفسها. ففي قصة الحّمالين، يمكن رواية مسيرة الإصلاحات العثمانية وانتكاساتها أيضاً.

في العام 1829، قام السلطان محمود الثاني بفصل الحمّالين المسلمين في الموانئ، بسب موالاتهم لآغوات الإنكشارية الناجين من الواقعة الخيرية عام 1826، واستبدل بهؤلاء المسلمين في الموانئ حمّالين من الأرمن. كان هذا الإجراء بداية سلسلة ظواهر لتحوّل علاقات التجاور والتكامل المهني والاقتصادي بين المجموعات السكانية المتنوعة في الهضبة العالية للدولة، أي الكتلة الجغرافية الأرمنية والكردستانية، إلى توترات اجتماعية متصاعدة.

ليس هناك ما يشير بشكل محدد إلى خلفيّة الحمّالين المفصولين والمتهمين بأنهم حاضنة للإنكشارية، رغم أن غالب العمال عموماً كانوا من الكرد والألبان، لكن هذا التدخل شكَّل علامةً ستمتد مئة عام تكون فيها هوية الحمّالين في إسطنبول تتحدد كحصيلة لحزمة من السياسات الداخلية والتدخلات الخارجية.  

بقي الحمّالون الكرد في المرتبة الثانية بعد الأرمن لحقبة طويلة، لكنهم تولّوا مهام التحميل خارج الموانئ، أي في حواري المدن والأسواق الداخلية، وتعمّق هذا الاستبعاد خلال وبعد حرب القرم (1853-1856) رغم الأثمان الباهظة التي دفعها الكرد كمجنّدين ومتطوعين، إلا أن جاء العام 1895 خلال الحملة المنظّمة من جانب السلطان عبدالحميد الثاني ضد القيادات الأرمنية المناهضة له، فكان من تداعيات هذه الحملة الدامية (المذبحة) التي امتدت إلى مناطق التعايش والتجاور الأرمني-الكردي، فضلاً عن إسطنبول، فصلُ العمّال الأرمن من الموانئ، لتعود السيادة العمّالية مجدداً للعناصر المسلمة، وتحديداً اختار السلطان عبدالحميد أن يكون عمال الميناء من الكرد وسلّمهم الموانئ في إسطنبول وإزمير، وكانتا أكثر مدينتين ناهضتين في الدولة خلال تلك الحقبة التي كانت فترة “نمو المرافئ”.

في أواخر العام 1907، حين كان الضابط البريطاني، الميجر سون، متوجهاً من إسطنبول إلى السليمانية في كردستان الجنوبية، فإنه خلال وصفه العاصمة العثمانية، تحدّث من بين ما تحدث فيه بخصوص تنوّع اللغات في شوارع القسطنطينية عن “جماعة متنافرة فظّة غليظة، تحمل على ظهورها جلوداً محشوّة، وهم حمّالو القسطنطينية. إنهم الأكراد، أقوى الأهلين وأكثرهم رجولة، لكنهم، ولعلًّ مردُّ ذلك إلى تلكم الصفات نفسها، محتقرون إلى أبعد حدٍّ في هذه البليدة، حيث الختل والرياء.”

مع وصول الاتحاد والترقي إلى السلطة، وإعلان الدستور، عام 1908، طلب الحمّالون الأرمن العودة إلى الموانئ وإنهاء حقبة الحمّالين الكرد، فلم ينجحوا في إسطنبول على الأقل. ربما اعتقدوا لوهلة أن الثورة ضد عبدالحميد هي ثورة ضد الحمّالين الذين جلبهم أيضاً. حافظ هؤلاء الحمّالون على مواقعهم، لكنهم بقوا على هامش السياسة، ولم يستثمرهم السياسيون الكرد، كما أنهم لم يقدّموا لهم شيئاً يفيدهم أيضاً. وشكّل هذا الوضع نموذجاً لعلاقات السياسيين الكرد بالمجتمع، حيث سادت علاقات اغتراب وانفصال بين القادة في إسطنبول، والمجتمع في الوطن الأم. وحين قرّر رجالات الكرد في السياسة والثقافة والتنظيم، العمل الجماعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهاوية التي كانت تسير إليها الدولة العثمانية، اختاروا إسطنبول محوراً للحراك السياسي والثقافي، بالنسبة للطبقة المتنورة. وسبق الأرمن النخبة الكردية في التمركز بالعاصمة، حيث كانوا مسنودين بمجتمع محلي أرمني إسطنبولي، على عكس الكرد القادمين إلى العاصمة فرادى، مع مجتمع غير متكامل، مكوّن من آلاف العمال الذكور في أفقر أحياء المدينة.

على أن حَدثاً جرى في العام 1908، أظهر تغيّراً ما، كان قد طرأ على تنظيم هؤلاء الحمّالين، فباتوا على قوةٍ لتنظيم احتجاج مرهوب الجانب، أقلق السلطات والقناصل الأجنبية في العاصمة. فقد تحوّلوا إلى محور اهتمام شعبي ودبلوماسي، وفي قلب جهود سياسية بذلتها النمسا لإقناع الحمّالين الكرد بالتخلّي عن الإضراب وحركة المقاطعة الشعبية للبضائع النمساوية على خلفية ضمِّها للبوسنة والهرسك في تشرين الأول/أكتوبر 1908. كان نجاح المقاطعة يعتمد على امتناع الحمّالين الكرد في إسطنبول، الذي ناهز عددهم 20 ألفاً في ذلك الوقت، من نقل بضائع النمسا في الميناء، وهنا تدخّل النورسي حين قرر العمال كسر الإضراب الشهير، وهو -أي النورسي- لم يروِ تفاصيل ما فعله وقاله، وذكر تدخله في ذلك الحين في محضر دفاعه عن نفسه ضدّ اتهامه بحادثة تمرّد الجنود خلال الفترة نفسها.

لم تذكر شكران واحدة، في كتابها عن سيرة النورسي، تفاصيل تزيل الغموض عن تأثير الشيخ على الحمّالين الكرد. على أن تفاصيل أوفى نجدها لدى دوغان جتينكايا في كتابه عن الأتراك الشباب وحركة المقاطعة 1908. فقد حوّل العمال حركة المقاطعة، بعد نهايتها في شباط/فبراير 1909، إلى إضراب للمطالبة بزيادة الأجور، وليس من المُستبعَد أن يكون قيام الحمّالين بهذه الحركة المنظّمة والواعية بتأثير القيادي الوحيد الذي يتواصل معهم. على أنّه لم تكن هناك إضاءة كافية على نشاط النورسي وسط الحمّالين. ورغم أنه روى سيرته في رسائل النور على نحو متفرّق، وجمع أحد تلامذته سطور وفصول سيرته الذاتية في مجلدٍ واحد، فإن حادثة الحمّالين بقيت بعيدةً عن السرد الوافي من قبل النورسي نفسه. وجرت العادة أن يروي في رسائله صيغ معهودة من قبيل: “حين التقيت أبناء العشائر في وان… إلخ”، لكنه لم يتطرق إلى أحاديثه مع الحمّالين.

من جهة أخرى، عُرِف الحمّالون كإحدى قوى المجتمع المعيقة للنهضة والتحديث، وعرقلوا في السابق بنجاح محاولات الحكومة تحديث الموانئ بسبب تأثير التطوير على مورد رزقهم وتقليصها قوة العمل المطلوبة لإنجاز المهام في الموانئ.

أسّس الشيخ بديع الزمان النورسي، جمعية التقدّم الكردية، عام 1919، ثم أسس جمعية ثقافية أقلّ تسييساً، هي جمعية نشر المعارف الكردية، بهدف إنشاء مدرسة ابتدائية لأطفال الكرد في إسطنبول، وهؤلاء الأطفال لم يكونوا سوى أبناء الحمّالين الكرد في العاصمة، وكان النورسي مدركاً أهمية محاربة الأميّة والجهل، فبينما كانت النخبة الكردية تصدر صحفاً في إسطنبول، فإن التوزيع كان قليلاً للغاية، “فمن بين /40/ ألف كردي في العاصمة، لم يكن /40/ منهم قادرين على القراءة” على حدِّ تعبير النورسي.

انضمَّ إلى الجمعية بقية الطليعة السياسية الكردية في ذلك الوقت، أبرزهم نجل الشيخ عبيد الله النهري، سيد عبدالقادر، وعددٌ من أفراد الأسرة البدرخانية، وشفيق أرواسي، وفؤاد باشا سليماني. وقد قدّم أمين بوز أرسلان في المقدمة الطويلة التي كتبها حين جمع أعداد مجلة “جين” التي صدرت في عام 1918، صورةً أكثر تفصيلاً عن نشاط الكرد في العاصمة.

باستثناء الشخصيات الدينية، مثل النورسي، وأرواسي، أقام معظم هؤلاء في إسطنبول، وكثّفوا تواصلهم المشترك مع القنصليات والمسؤولين الأوروبيين. غير أن القاعدة الاجتماعية للسياسيين كانت بعيدة جداً، في كردستان. تمركزت هذه النخبة في العاصمة، التي كان يكرهها النورسي ويحبّها البدرخانيون المنفيّون عنها منذ عام 1905، وغرقت في الخصومة والمشاحنات والمؤامرات في أخطر مرحلة من تاريخ ضعف الدولة.

بين عامي 1908 و1919، كان قد نما مجتمع الحمّالين في إسطنبول، وبات العدد يقارب الـ/40/ ألفاً في أنحاء العاصمة، أكثرهم شكيمة هم حمّالو الميناء، فبات هناك جيشٌ من الفقراء الذكور، نشأ لهم مجتمع حين جلب العديد منهم عائلاتهم من كردستان، لكن كما في عام 1908، فإن أحداً من السياسيين لم يتقدّم لتنظيمه ومساعدته، وقد يكون للأمر علاقة بالتعالي الطبقي لهؤلاء، باستثناء شخصٍ واحد نزل بنفسه إليهم مجدداً، وهو النورسي، وهو نفسه يعرّف عن نفسه بالقول “ما أنا إلا ابن حمّال.”

يتحدث الكاتب ممدوح سليم، في مقالة له نُشِرت في العدد الـ/25/ والأخير من مجلة “جين”، عن قضية الحمّالين الكرد، ويتحدث عن أنهم يتعرضون للاستغلال من جانب شخصين يتوليان إدارة جمعية باسم جمعية الحمّالين. بعد إغلاق مجلة “جين”، باتت قضية الحمّالين طيّ النسيان، وليس هناك مصدرٌ تطرق إليهم، خصوصاً بعد انهيار التجمّع السياسي الكردي في جمعية التقدّم، على إثر الاتفاق الذي وقّعه الجنرال شريف باشا مع ممثل الأرمن، بوغوص باشا، في باريس، نهاية عام 1919، لتأسيس دولتين أرمنية وكردية.

خسر الحمّالون الكرد والأرمن معاً، ومع السنوات الأولى من إعلان الجمهورية، كان المشهد مختلفاً في الموانئ. لو أن سيمون هاكوبيان أراد إعادة رسم لوحته الواقعية عام 1926 لرسم حمّالين بملابس مختلفة، دون أن يُظهِر أحد الحمّالين في حالة نقاش، بدت احتجاجياً، مع ثلاثة آخرين. فالجمهورية لم تَعُد ساحة للنقاش لفترة طويلة من الزمن.