من دولة المكوّنات إلى دولة المواطنة

تسرّب مصطلح “المكوّنات” من العراق إلى لغة السياسة والاجتماع السورييّن، في الأعوام التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق، الكتابات والأبحاث والمقالات بدأت تعجّ بهذا المصطلح المُبتَدع، قبل الأميركان، جاء الفرنسيون بمصطلح “الأقلّيات” إلى لغة أهل المشرق، والذي غدا بديلاً عن اللغة العثمانية المهترئة، كالرعايا وأهل الذمّة، وبذا وفي كل دورة تدخّل غربيّ تنشأ مصطلحات وتدخل مفردات فيما تختفي أخرى.


كان عراق صدّام حسين أرضاً خصبة لتبذر الولايات المتحدة فيها مفاهيمها الجديدة، الطوائف والإثنيات خضعت لعملية تجميل أميركية صار اسمها مكوّنات الشعب العراقي، بدل أن يكونوا مواطني جمهورية العراق، البعث بدوره خبّأ الجماعات الأهلية تحت عباءة نظامه وقسّم المجتمع إلى (مع أو ضد)، وعليه لم يكن العراق دولة مواطنين حتى يخاطبهم المحتل الأمريكي بما تمليه الأعراف السياسيّة. كان عراق صدّام في جوهره دولة القائد والحزب والجماعة الأمنيّة، شيءٌ أشبه بسوريا الأسد.


ثمّة تعبير أسبق استُخدم في وصف التشكيلات الاجتماعية والجماعات الأهلية والإثنيات والطوائف في أواخر الزمن العثماني الطويل، حيث كانت صيغة “عناصر الأمّة” أقرب التعبيرات إلى لفظ المكوّنات الجاري على ألسنة الكتّاب والسياسيين المعاصرين، فيما شذّت إيران عن بقية دول الشرق الأوسط التي ربطت المواطنة بالعرق، إذ خلصت إيران إلى إطلاق تسمية “الشعوب الإيرانيّة” على مجموع الشعوب التي تقطن الهضبة الإيرانيّة، وفي وقت أسبق تخلّص الشاه المستجد رضا بهلوي في العام 1935 من تسمية “فارس” ذات الدلالة العرقية الضيّقة لصالح اسم إيران الجامع، لكن الخمينيّة أو الدولة الثيوقراطية أماتت المساواة الشكلية مرّةً أخرى عبر التفريق بين المواطنين على أساس الدين والمذهب.


لم تكن سوريا، شأن دول الجوار، دولة مواطنة عبر تاريخ تكوّنها الحديث، ذلك أنه لم يُتح لها أن تتحوّل، وفق المسار التاريخي القصير منذ جلاء القوّات الفرنسية عن أراضيها، إلى الشكل الأوربي الأثير للدولة الحديثة، أي الدولة-الأمّة، فيما أبقي على المواطنة جزءاً من رطانة الخطاب العام للدولة/الأنظمة، وقد كانت بذلك مواطنة جوفاء وشكليّة ومخصّصة للمخاطبات الرسمية وبرامج التلفزة والإذاعة التي تستقبل المتصلين ببرامجها بعبارة “أهلاً عزيزي المواطن!”


في الأثناء، تطفو على السطح مسألتان في هذا السيّاق، تتمثّل الأولى في تبنيّ حل مشاكل الاعتراف عبر التشديد على خطاب المكوّنات، حيث أن سوريا هي حاصل جمع الجماعات الأهلية المتعايشة، وغير المندمجة في كيان سياسيّ وقانوني، فيما تتمثّل المسألة الثانية في عصا المواطنة السحريّة، ولعلَّ القول بالمواطنة دون المرور بمسائل الاعتراف والمساواة بين الإثنيات والطوائف يعني إعادة تدوير المشكلة لا حلّها، فالإسلاميون يرون في المواطنة تقديماً لحقوق الأكثرية السنّية على ما دونها من طوائف وأديان، فيما يرى “العروبيون” أن المواطنة تعني أن سوريا ينبغي أن تُحكَم بهوى الأغلبية القوميّة، وبالتالي لا يمكن التنازل للأقليات القومية الأخرى عن بعض السمات القومية للدولة (العربيّة)، في حين يرى اتجاه ثالث أن المواطنة تعني تقديم الحقوق الفردية على حقوق الجماعات ما يعني إلغاء الهوّيات الفرعية وشطبها تحت شعار “كلّنا سوريون” وفي هذا نظرة استيعابية مريبة ومخيفة للأقليات القومية، لا سيّما الكرد والسريان الآشوريين.


ما يدعو إلى الملاحظة هو أن تعبير المكوّنات بات يَكثُر تداوله في شمال شرق سوريا، أي في مناطق الإدارة الذاتية، وصفاً للإثنيات الرئيسيّة، العرب والكرد والسريان الآشوريين، إذ وبدلاً من قول الكرد أو العرب بات التعبير الدارج في معظم التقارير الإخبارية المحلّية وفي البيانات السياسيّة يشير إلى المكوِّن الكردي أو المكون العربي! فيما يمكن الإشارة إلى الكرد والعرب وسواهم بدون لواحق وإضافات كالحديث عن طائفة وإلحاق صفة “الكريمة” بها.


يُفتَرض بمفردة “المكوّنات” أن تكون مؤقّتة وانتقاليّة، أو أن تكون مفردة وسيطة بين مرحلتي الدولة القومية الواحدة أو دولة الجماعة الدينيّة أو دولة الحزب والقائد وبين دولة المواطنة، لكن واقع الحال يشير إلى أن دولة المكوّنات باتت غاية في حدّ ذاتها طالما أن شكل دولة المواطنة المُتخيَّل يعاني من خلل كبير وانقسام حول تصوّر شكله الأمثل والملائم لواقع التعدّد الإثني والطوائفي السوريّ.


ثمة نفورٌ كرديّ من حصر حقوق الكرد بالمواطنة، وهذا مُلاحظ في الخطاب السياسيّ الكردي، مردّ الأمر إلى أن الداعين إلى المواطنة منقسمون في تصوّرهم لها، إذ تبدو مقاساتهم إمّا واسعة على سوريا حيث سوريا عربيّة أو إسلامية، أو ضيّقة إلى الحد الذي لا يستوعب حقوق الجماعات القومية، وفي كلتا الحالتين لا يمكن “التبشير” بهذين التصوّرين على أنّهما شكلا دولة المواطنة.


ثمة مساحة رحبة لتخيّل دولة مواطنة قائمة على الاعتراف بالهويّات الفرعية التي لا تتعارض مع الحقوق الفرديّة، ثمّة مساحة أيضاً للتخلّص من فكرة دولة المكوّنات والتي تبدو الشكل المحسَّن والمخاتل لدولة الطوائف ودولة القوميات المتنافرة.