الخدمات جوهر السياسة

لا تكاد تمر لحظات إلا وتكون هناك احتجاجات لفظية على الوضع الخدمي في مناطق الإدارة الذاتية، ترافقها حالة من اليأس وانعدام الأمل في حدوث تغيير إيجابي، ذلك أنه على سبيل المثال، يَردُ أحد أصحاب مولدات الكهرباء على شكوى من مواطن يدفع اشتراكاً شهرياً مقابل تلقي الكهرباء منه، بالقول: “افعل ما تشاء”، وهذه النغمة، نغمة “افعل ما تشاء” بدأت تترسخ لدى بعض أرباب القطاع الخاص المشاركين في تزويد المواطنين بالخدمات الأساسية. ويبدو أن هذه الوصفة تعمل بشكل فعّال، لأن من يريد تقديم شكوى لا يعثر على القطاع المعني بالشكوى، وهي ظاهرة فريدة من نوعها أن يجهل المواطنون الهيئة المسؤولة عن خدمات معيّنة.

يعد قطاع الخدمات وما يتعلق به من أدوات تسيير الحياة اليومية، الموضوع الأول في الدول ذات النظام الانتخابي، ذلك أن إقناع الناخب بالتصويت يرتبط بصفقة تبادلية، يكون الصوت الانتخابي الممنوح للسياسي والمسؤول مقابل خدمات يتلقاها المواطن. وشهدت العقود الماضية تقدماً في مكانة الخدمات ضمن صناعة الولاء السياسي، فلم يعد استقطاب الأنصار يعتمد على السياسات القومية والتعبئة الأيديولوجية فقط، أو لم يعد هذا الدافع كافياً للحصول على ولاء السكان بدون مساءلة في جوانب أخرى.

على العكس من ذلك، فإن انشغال الناس بقضايا يومية عصية على الحل، يكون على حساب المشاركة في الشأن العام. فالخدمات السيئة تجعل من شخص يبحث عن طريقة لتوفير مياه الشرب مدة خمس ساعات، بينما من المفترض أن تكون هذه الساعات لأمر آخر، قد يكون حتى “الحق في الكسل والنوم”، وعدم توفر هذه المساحة يبعد قطاعاً مهماً من السكان عن الاهتمام بالقضايا الملحّة المصيرية، مثل خطر الغزو التركي، والقلق العام حول المستقبل. هذا القلق الذي يتسبب به اضطراب الخدمات اليومية، يتقاطع – بشكل تلقائي ودون سوء نية – مع ثقافة الهدم والتشاؤم واللامسؤولية، ولا يوفر بيئة يمكن من خلالها بناء سياسات جماهيرية تشكل جوهر الإدارة الذاتية.

إن انتشار ظاهرة “افعل ما تشاء”، يعكس غياب القلق والخوف من المحاسبة، وكذلك هشاشة الرقابة. وهذا المسار الخدمي بهذا الشكل متفشٍ كثيراً في عدد غير قليل من دول العالم والإقليم المحيط.

 شيئاً فشيئاً، يصبح الفساد جزءاً حيوياً من الجهاز الحكومي. أي أنه لا يمكن مكافحته، لأنه في حال مكافحته سينهار الجهاز الحكومي تلقائياً، بسبب التشابك السلبي بين المحسوبية والقطاعات الإدارية. هذا ما يحدث في بلد مجاور هو العراق، على سبيل المثال، وهذا هو جوهر العجز عن مكافحة الفساد، لأن المكافحة بعد فوات الأوان تعني هدم الدولة نفسها، وهي ورطة سياسية لا يبدو من خلال التجارب المعاشة أن لها حلاً سوى البدء من الصفر. لذا، يمكن للإدارة الذاتية بكافة قطاعاتها، الرسمية والتطوعية، العمل معاً لتفادي الوصول إلى هذه الحفرة التي تعجز دول بموازنات تزيد عن /100/ مليار دولار، الخروج منها.

خلال العقود الأخيرة تغيرت أسس بناء شبكات الولاء الانتخابي عالمياً. وبسبب أنّ السياسات الكردية في عموم المنطقة اقتصرت على تنظيم المقاومة المسلحة، فإن هذا الأمر كان كافياً للحصول على التأييد، ولأن قطاع الخدمات الذي تديره سلطات الأنظمة في المنطقة لم تكن مثالية، فإن تأييد المقاومة المسلحة لم يكن يترافق مع أسئلة عن التصورات المستقبلية سوى التحرر السياسي. لكن، الحال تغير في ثلاث جهات من كردستان منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم. فقطاع الخدمة بات جزءاً صانعاً للسياسات منذ أول انتخابات بلدية منظمة خاضها الكرد في شمال كردستان وتركيا مطلع التسعينيات، والأمر تطور في السنوات الأخيرة حيث بات قسم من الناخبين القوميين يضع الحزب المعني أمام المساءلة الفعلية بسبب التقصير في تلبية احتياجات السكان. كذلك الأمر في جنوب كردستان والعراق، لم يعد كافياً رفع علم كردستان والتغني بأمجاد القرن الماضي حتى تحصل على الولاء التام. هناك عمل يجب إنجازه ميدانياً، طرق وجسور ورواتب وتوفير فرص عمل، وحماية الإنتاج المحلي.

بدون هذا الهارموني الشامل لا يمكن الحديث عن ولاءات حقيقية، ولا يمكن بناء سياسات جماهيرية فعالة. والحال بات ينطبق على روجآفا وشرقي الفرات. بل إن في هذا الجزء يعد موضوع تسيير الحياة اليومية أكثر أهمية من أي وقت آخر، ذلك أن قطاعاً كبيراً من السكان لديهم أولوية توفير الخدمات ثم التأييد السياسي، وفي حال كان أداء الهيئات الإدارية الخدمية فعالاً فإن ذلك فقط ما يمكن أن يخلق مساحة للعمل السياسي وسط السكان، أي بعد تلبية الخدمات الأساسية. أما دون ذلك فإن الميادين الفارغة من الأمل ستتحول إلى ساحات للاحتجاج وحرق الإطارات، ويفتح الباب أمام استخبارات الدول الإقليمية المعادية التدخل من هذا الباب وتسييس القصور الإداري لجعله يبدو وكأن هناك سياسة استهداف ممنهجة للسكان.

قد يكون إعادة النظر في نوع اللامركزية داخل دوائر اتخاذ القرار جزء من الحل. فتوفير مساحة غير رقابية أساسي في صناعة القرار ضمن فكرة “الإدارة الذاتية”، لكن هذا لا يمنع من إعادة التفكير في هذا الأسلوب حيث ان لامركزية القرار يمكن أن تكون في طريقة تسيير التنفيذ، وليس اتخاذه بشكل مستقل عن دائرة أعلى تكون مسؤولة في المشاركة والتوجيه، وشريكة في المسؤولية عن التداعيات المحتملة. كذلك تفعيل جهاز رقابة يكون مسؤولاً عن توضيح المسؤوليات وتوجيه مسار الشكاوى إلى الجهة المناسبة، بدلاً من الوضع الذي تقول فيه كل دائرة تتم مراجعتها: “هذا ليس من شأني”.  

لا توجد حلول جاهزة ما لم تكن هناك إرادة عليا لتصحيح الخراب الذي يجري في الأسفل، وفي حال توفرت الإرادة، فإن الشعب المتضرر على كافة المستويات سيكون السند الأول لأي تدخل فوري، لأن ترك الأمر لـ”الإصلاح الذاتي” سيؤدي إلى سيناريو الخراب الإداري في العراق، حيث لا يمكن لا التقدم في الإصلاح ولا التراجع عن الفساد، وهو وضع ما زال من الممكن تداركه شرقي الفرات، إذا توفرت الإرادة.

خلال العديد من اللقاءات مع محاميه، كان زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، يمتلئ غضباً وهو يتحدث عن بلديات حزب الشعوب الديمقراطي. كان يستغرب، ولا يزال، كيف لا يقوم رؤساء ومسؤولو البلديات، الذين انتخبهم الشعب، بالمشاركة في تنظيف وتكنيس الشوارع، وكيف لا يقومون بمهامهم بشكل جذري وبين الناس ويمارسون السياسة بينما يهملون مهامهم الرئيسية وهي تسهيل الحياة اليومية لأولئك الذين انتخبوهم ولم ينتخبوهم. ذلك أن أوجلان يدرك أنه حتى في وجه دولة مثل تركيا، وحكومة عنصرية يديرها تحالف حزب العدالة مع حزب الحركة القومية، فإن ولاء الجماهير ليس محسوماً إذا لم تقم بعملك بالشكل الأمثل، والعمل الخدمي في المقدمة.