ألمانيا ـ فرهاد حمي ـ NPA
يبدو أن إضعاف “بروكسل” والتي تسيطر عليها الأحزاب الأوروبية التقليدية من اليمين المسيحي الوسط إلى الاشتراكيين الديمقراطيين، ليس فقط هي مساعي الأحزاب القومية الشعبوية الصاعدة في أوروبا عشية الانتخابات الأوروبية المزمع إجراؤها في 26 الشهر الجاري، بل شكلت فضيحة المستشار النمساوي هاينز كريسيتان، عقب تسريب شريط مصور من قبل الصحافة الألمانية المحلية، وهو يناقش مع مستثمر روسي من أجل إبرام عقود حكومية مقابل دعم انتخابي، بدخول عامل خارجي متمثل في بوتين من جهة، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر مستشاره ستيف بانون من جهة أخرى.
وفجرت هذه الفضيحة المدوية في النمسا، سؤالاً محورياً حول مدى مسار شرعية العملية الانتخابية في أعرق قارة والتي توصف ذاتها بأنها رافعة القيم الليبرالية والديمقراطية التمثيلية في العالم، على الرغم من أن آثار هذه الحادثة أفضت إلى تهاوي الائتلاف اليميني الذي يقوده حزب الحرية المحافظ في النمسا، إلا أنها لم تقلل من المخاوف لدى القوى التي تقارع من أجل حماية” أوروبا الموحدة”. وتحديداً لكل من الرئيسي الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حذر قاعدته الجماهيرية في ضرورة وقف المؤامرات التي تهدف إلى “تفكيك أوروبا” عبر التيارات اليمينة الشعبوية، بينما دعت بدورها المستشارة الألمانية انغيلا ميركل، بضرورة التصدي لساسة “يبيعون أنفسهم”.
وتتنافس الأحزاب التقليدية الأوروبية التي تمثل الأحزاب المسيحية المحافظة، والأحزاب الديمقراطية الاشتراكية والخضر واليسار، من أجل المحافظة على كيان الاتحاد الأوروبي، في حين تسعى التيارات اليمينة المنتشرة في جميع البلدان الأوروبية لتقيد سلطة بروكسل لصالح الكيانات القومية المحلية، مع ضرورة وقف الهجرة التي تتعارض مع الهوية الوطنية المحلية، والتقليل من سطوة النفوذ المالي لدى بروكسل على الخيارات الاقتصادية الحمائية.
وأظهرت استطلاعات الرأي مؤخراً، تراجع التيارات المحافظة التي تقودها حزب الشعب الأوروبي القريب من المستشارة الألمانية، عدداً من المقاعد البرلمانية في بروكسل لصالح الأحزاب اليمنية المتطرفة، في حين قد تفقد أيضاً وفق الاستطلاعات المذكورة، أحزاب الاشتراكيين الديمقراطيين نفوذها أيضاً، لصالح صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تقودها زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا مارين لوبان، والزعيم الإيطالي ماتيو سالفيني.
وترجح تلك الاستطلاعات، بأنه من المنتظر أن يحتفظ الديمقراطيون المسيحيون بـ23.3% من مقاعد البرلمان.
لكن المخاوف تتمحور حالياً حول تقدم المجموعات الشعوبية التي قد تحصل مجتمعة على نسبة تتراوح بين 20 و23% من مجموع مقاعد البرلمان على حساب الاشتراكيين الديمقراطيين 19.5% والليبراليين حوالي 13% واليسار 6.3%..
وبصرف النظر عن حظوظ صعود اليمين المتطرف في بروكسل والذي بات لاعباً محورياً في الخارطة السياسية الأوروبية، غير أن هذه العملية الانتخابية بحد ذاتها تواجه إشكالية تدخلات خارجية في سياق تشويه العملية الديمقراطية نفسها، وكانت قمة ميلانو، التي جمعت اثني عشر حزبا أوروبيا من اليمين القومي المتطرف، في إطار حملة الانتخابات الأوروبية مؤشراً يوحي بذلك، حيث شكلت الحدث الرئيسي قبل أسبوع من التصويت، حتى وصفها البعض بأنها منعطف هام في مسار هذه الأحزاب، قمة تأتي عشية ظهور ستيف بانون في باريس، كمستشار غير رسمي لحملة حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبن.
بانون المستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومهندس انتصاره الرئاسي، والذي يعتبر المفكر الأساسي لتيارات اليمين الشعبوي المتطرف في الولايات المتحدة، كان قد توقع أن تؤدي نتائج الانتخابات الأوروبية إلى زلزال سياسي لصالح أحزاب اليمين القومي المتطرف، ولكن ما لفت أنظار المراقبين هو تصريح سابق لبانون، أكد فيه أن صعود اليمين القومي الأوروبي سيسمح لترامب بالانتصار في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويبدو أنه يقدم لمارين لوبن خبرة هامة، كانت قد ساعدت على انتصار ترامب، في توفير مصادر التمويل وإدارة الحملات الانتخابية وعمليات الدعاية السياسية.
وتبعاً للمراقبين، فإن ظّل ترامب يخيم على الانتخابات الأوروبية في فرنسا بصورة واضحة، في حين ظّل بوتين ظهر، في هذه الانتخابات بدوره،
وخصوصاً في فضيحة نائب المستشار النمساوي الأخيرة، حتى أن السؤال أصبح مطروحا بقوة في العواصم الأوروبية، عما إذا كان ترامب وبوتين يلعبان دور العرّاب لليمين القومي المتطرف الذي يريد إنهاء الاتحاد الأوروبي لصالح فكرة أوروبا الأمم، ذلك أن الاتحاد الحالي لا يثير ارتياح واشنطن وموسكو وبكين.
يبدو أن ظهور كل من صورة بوتين وترامب نابعان من خلل داخلي يعصف بالسياسية الأوروبية، حيث أرجع بعض المحليين هذا الخلل إلى الفجوة الكبيرة بين الأحزاب التقليدية والشارع، ذلك أن النخبة التقليدية سواء من اليمين الوسط أو اليسار، طبقت عملياً، ذات السياسات، عند تحتل موقع السلطة، مما أدى لانفجار الوضع الاجتماعي، وهو ما عبرت عنه حركة السترات الصفراء في فرنسا مؤخراً. فضلاً عن الأرقام المالية التي نشرها حزب ميركل في ألمانيا حول تقديم المساعدات المالية الكبيرة سواء في الداخل الألماني أو في البلدان التي تعاني من ظاهرة الهجرة مثل الشرق الأوسط، وهو ما عزز من دعاية حزب “البديل” في ألمانيا الذي يعارض سياسة” بروكسل” حيال الهجرة.
ويضاف إلى هذه الأسباب، بأن هذا الاختراق الذي يهدف إلى تقويض الاتحاد الأوروبي وجودياً وفق تعبير ماكرون، ينبع نتيجة النهج الليبرالي المالي المتشدد التي تنتهجها البنوك الأوروبية حيال الدول الجنوبية الفقيرة في أوروبا، مثل إيطاليا واليونان واسبانيا، فضلاً عن شكاوى متتالية من الدول الأوروبية الشرقية التي تعاني من تداعيات سلبية جراء سياسة “السوق المفتوح” التي تستهدف الطبقات المتوسطة والفقيرة في بلدان مثل هنغاريا وبولندا، وخاصة مع ظهور اجتماع بين رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، مع الملياردير الأمريكي جورج سورس، الذي يعتبر مسؤولاً حسب وجهة نظر الرئيسي الهنغاري اليميني فيكتور اوروبان، على تهاوي الاقتصادي المحلي بسبب الاستثمارات الاحتكارية التي تنتشر في أوروبا الشرقية من قبل شركات جورج سورس.
غير أن الفضائح الأخيرة التي طالت الأحزاب اليمنية المتطرفة عشية الانتخابات الأوروبية، من المرجح بطريقة ما، أن تقوي موقف معسكر ماكرون وميركل في التشديد على ” تضامن أوروبا” وأهمية الحفاظ على بروكسل من صعود التيار المتطرف رغم كل المساوئ التي تعترض سياسة بروكسل المالية والخارجية،
لكن يبقى حفاظ الاتحاد الأوروبي على نفسه، وفق آليات ليبرالية تقليدية مشكوك من قبل الخبراء، وهذا ما يضع أوروبا أمام وجوب المزيد من الإصلاحات على مستوى “الاتحاد” كما تدعو البرامج تلك الأحزاب التي تريد حماية الاتحاد الأوروبي، بما تستطيع أن تحتوي التناقضات القومية في داخلها وفق قاعدة العدالة الاجتماعية وسياسة الهجرة المنظمة وتوحيد السياسة الخارجية، أو الإصرار على السياسية المالية المركزية التقليدية لدى البنوك المركزية، وبالتالي المزيد من التلاعب والابتزاز من قبل التيارات اليمينية المدعومة من بعض الأطراف الدولية التي تتربص في تقويض أوروبا، مثل ترامب وبوتين.