ماتريوشكا روسيّة في سوريا

رغم تكتّم دمشق عمّا أُشيع عن وجود خلافات روسيّة-سوريّة حول المسائل الأساسيّة في حقلي إدارة الملف الاقتصادي والعملية السياسيّة، فإنّ النظام السوريّ أنكر الأمر مراراً، غير أن الجملة المفتاحية التي أدلى بها بشار الأسد في مستهلّ لقائه الوفد الروسي كشفت عن وجود خلافات فعليّة وربّما عميقة، وإلّا ما معنى قوله بأن موسكو ودمشق “نجحتا في إحراز تقدّم في تحقيق حلٍّ مقبولٍ للطرفين في العديد من القضايا.”

لا يعني ذلك أن المشكلات والخلافات ستنتهي، إذ ووفقاً للخط البياني للعلاقة الثنائية يمكن ملاحظة سباحة دمشق عكس التيار الروسي لا سيّما في مسائل الاقتصاد وإبطاء الدور الروسي في قيادة الاستثمارات في سوريا والتمكّن من عرقلة الأدوار السياسيّة لروسيا كملف المصالحات، والتسوية السياسية في شمال شرق سوريا، والحدِّ من الدور الإيراني النافذ، الحليف والمنافس.

أولت موسكو المسار الاقتصادي الأولويّة القصوى، ذلك أن الشبكات الزبائنيّة والفساد واحتكار القطاعات الحيوية، أفضى إلى تكبيد موسكو خسائر اقتصادية في سوريا، إذ بدت سوريا خلال السنوات القليلة الماضية أقرب إلى دولة النهب العام منها إلى نظام متماسك قادر على إدارة الأزمة، ضاعف صعوبة الأوضاع صدور “قانون قيصر” والأزمة الناجمة عن وباء كورونا حيث وضعت الجائحة الاقتصاد الروسي نفسه في عين العاصفة، هذه المسائل وسواها أدّت إلى تغليب موسكو الشرط الاقتصادي على السياسيّ، ضمن لعبة تبديل الأولويات، لا يعني هذا التسبيق والتغليب أن الملف السياسيّ لا يحظى بذات الاهتمام، أو أنّ الملفّين غير متشابكين ومتداخلين.

تكمن مصلحة النظام في التشبيك الاقتصادي الذي يجعله يتقاسم العقوبات الصارمة، التي فرضها قانون قيصر، مع الروس. العقوبات الأمريكية تبدو قابلة للاتساع لتشمل طيفاً واسعاً من موظّفي وكبار شخصيات النظام ومقرّبين منه أو محسوبين عليه، الأمر الذي سينسحب على كيانات وأفراد روس، لكن بالرغم من ذلك يبقى رجاءُ دمشق معقوداً على الدعم الماليّ الروسي الذي قد يتدفّق على شكل قروض واستثمارات وعمليات إنعاش النقد المحلّي عبر ضخ مليارات الدولارات.

لا تغري الدولة السوريّة العاجزة والمتطلّبة في شكلها الحالي موسكو، يزاد على ذلك رغبة روسيا إيجاد حلول مستدامة نزولاً عند ضغوطات المجتمع الدوليّ الرامية إلى إخراج الإيرانيين من سوريا، على ما يعنيه إخراج إيران من وقف تدفّق المساعدات الإيرانيّة والاعتماد على المساعدات الروسيّة ريثما تهيئ روسيا الشرط السياسي تماشياً مع القرار /2254/، ولعلَّ الحلَّ الروسي غير المُعلن يكمن في أن تتحوّل روسيا إلى “وصيّ على الاقتصاد” تدير الملف الاقتصاديّ من الألف إلى الياء، بدءاً من تهيئة البنية التحتية المتهالكة أو المدمَّرة، مروراً بوضع يدها على مقدّرات النفط والغاز والفوسفات، وصولاً إلى إدارة الموانئ البحرية والجوية، ودائماً عبر الاعتماد على المستثمرين الروس.

زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، ووزير الخارجية، سيرغي لافروف، الأخيرة إلى دمشق كشفت عن الخطوط العامّة للسياسة الروسيّة تجاه الأزمة السوريّة، والتي بدت رغم رتابتها نسخةً مزيدة ومنقّحة عن الخطاب الرسميّ الروسي الذي يركّز على الحفاظ على خطوط أستانا ودعم عمل اللجنة الدستورية والقرار /2254/، إذ يمكن القول إن النسخة الروسية المعدَّلة تسعى إلى إدماج شمال شرق سوريا في عملية سياسية موازية للعملية الدائرة في جنيف، ذلك أن الاتفاق الذي حصل بين مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وحزب الإرادة الشعبيّة كشف عن رغبة روسيّة في استيعاب مطلب مسد الأثير المتمثّل بالنظام اللامركزيّ، حيث أبدى وزير الخارجية الروسي دعمه للاتفاق دون تحفّظ، وعكس دعم بلاده للاتفاق خلال زيارته الأخيرة، رغم تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلّم المتشدّد والرافض للاتفاق بين مسد ومنصة موسكو بقوله “أي اتفاق يتعارض مع الدستور السوري لا ندعمه”، إلّا أن دفاع لافروف بدا تطوّراً ملحوظاً في الخطاب الروسي الذي كان يتماثل مع خطاب النظام حتى وقت قريب.

لدى روسيا اهتمام واضح بشمال شرق سوريا. عقود إعادة التأهيل التي أبرمتها قسد مع “ديلتا كريسنت إنيرجي” الأمريكية ألهمت موسكو السير على طريق واشنطن، الشركات الروسيّة قد تكون التالية. ثمة رغبة روسية في تسريع عملية “استيعاب” شمال شرق سوريا قبل موعد الانتخابات الأمريكية والاستفادة من مرحلة ركود السياسة الخارجية الامريكية القصيرة ما أمكن، هناك رغبة من قبل الإدارة أيضاً في إيجاد بدائل تؤمِّن مظلّة حماية حال تراخي الولايات المتحدة أو تراجعها عن تعهداتها.

تبدو الخطوات الروسيّة أكثر جدّية مما مضى لكن استشرافها يبدو صعباً، فيما العناوين العامّة تلوح في الأفق: وضع الاقتصاد السوري في غرف العناية الروسية المشدّدة، إيجاد حل لتعدّد الولاءات في الجيش والمليشيات الرديفة، دفع العملية السياسيّة لتجنّب حدّة العقوبات التي سيتسبّب بها قانون قيصر، التحالف مع القوى من خارج حلقة النظام، الحدُّ من النفوذ الإيراني وتقليصه إلى الحدود الدنيا.

بالنسبة إلى موسكو، باتت الأوضاع في سوريا أقرب إلى لعبة الماتريوشكا الخشبيّة الروسية حيث ينبغي لكل دمية خشبية أن تستقرّ في داخل الدمية الأكبر، فيما سعي روسيا الدؤوب منصبّ على أن تبقى أكبر القطع وآخرها.