شورش درويش
كان من عادة الأتراك، زمن العثمانيين، حذف النسبة من الاسم، بذلك صار اسم محمد كرد علي، “محمد تعديل”، نسبةً إلى حيّ التعديل الذي كان يقيم فيه والده بدمشق، بعد أن تحرَّج من اسم الحيّ الأصلي الذي كان يقطنه، وهو “زقاق البرغل”، وكان في وظيفته يُكنّى “محمد فريد”، وهو اسمه ولقبه المختصر، إلى أن بدأ يكتب في الصحف باسمه الصريح، والذي، بحسب كرد علي، “كان أقصى همّي أن أعود إلى اسمي الأول وإلى لقب بيتنا القديم”؛ والعائلة بحسب ما ورد في مذكّرات كرد علي تنحدر من السليمانية من “بلاد الأكراد” والتي جاء منها الجدُّ قبل /150/ سنة، في حين كانت أمّه شركسية قفقاسية، وبذا تباهى محمد كرد علي بأصوله بالقول “فأنا على رغم أنف من آمن وكفر من جنس آريّ لا يقبل النزاع، وليس للغربي ولا للشرقي ما يقول في دمي”.
إضافة إلى كونه أوّل وزير للمعارف في سوريا، شغلَ رئاسة مجمع اللغة العربية في دمشق (1919-1953)، وفي الفترة التي شغلَ فيها مناصبه الحكومية، رُفِد مفتشاً إلى مناطق عدّة كان من بينها زيارة لواء الجزيرة (الحسكة)، فكتب تقريراً عن مجمل جولته بتاريخ /18/ تشرين الثاني 1931، ناصحاً الحكومة إبعاد الكرد إلى “أماكن بعيدة عن حدود كردستان” وغاية الأمر هو “لأن الكرد إذا عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم فالأيام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم” ولذا فإن جمهرة الكرد في بقعة كالجزيرة تمثّل خطراً، وعليه ينصح الكرديّ “الآريّ” محمد كرد علي الحكومة إبعاد الكرد وإسكانهم في “أملاك الدولة في أرجاء حمص وحلب”.
علّل كرد علي تجمهر الكرد في الجزيرة إلى أنه تروقهم السكنة في المساحات الزراعية المسقيّة على ضفاف الفرات والخابور وجغجغ والبليخ، حيث إمكانية سقاية واستصلاح الأراضي، والابتعاد قدر الإمكان عن الأراضي البعليّة، وعليه؛ فإن الماء وفقاً لكرد علي مذ كانت سوريا دولة “جنينية”، عامل تجمهر الكرد وتجمّعهم.
هذا الإيحاء والتلميح الذي قدّمه وزير المعارف حول أهمية تحكّم الدولة بالمناطق الواقعة على ضفاف الأنهار، للتخلّص من عبء مزعوم قد تشكّله مجموعات إثنية، الكرد والسريان الآشوريين والأرمن، نجد له طبعة أشد وطأة وأفصح عدوانية، حيث بدأت تركيا حروب الماء في سوريا، فبعيداً عن التلاعب بمنسوب وحصة سوريا من نهري دجلة والفرات، أقدمت تركيا إبان حربها المفتوحة على عفرين 2018 بالسيطرة على سد ميدانكي ومضاعفة الحصار على مدينة عفرين عبر قطع المياه عنها، وفق سياسة قروسطيّة تعمد إلى إنهاك المدن قبل قصفها واحتلالها، الأمر الذي يسجَّلُ بوصفه جريمة حرب صريحة.
في الأثناء تستمر تركيا والميليشيات السورية العميلة لها بالإمعان في فرض حصار على مدينة الحسكة، عبر قطع مياه محطّة علّوك التي تصل الحسكة من مدينة سرى كانيه/رأس العين ، قطع الماء لا يعني الإضرار بالكرد فحسب، بل يطاول كل السكّان، ويهدف إلى التسبب في إغراق الإدارة الذاتية في المشكلات الخدمية التي تمثّل عمود الاستقرار واستمرار الإدارة.
طريقة معاقبة مدينة الحسكة التي تبعد عن الحدود السورية التركية ما يقارب /90/كم بهذه الطريقة، تفسّر شيئاً من روح السياسة التركية إزاء سوريا، حيث كل مدينة أو قرية لا تخضع للباب العالي تعتبر منطقة معادية، ولا شفاعة لجماعة إثنية أو دينية أو طائفية طالما أنها لا تبايع تركيا وتشايعها في سوريا.
في الأصل، بنيت معظم المدن في الجزيرة السورية على ضفاف الأنهار، أو بالقرب من الينابيع، حتى أنّ فرنسا حين باشرت في تنظيم المدن في الجزيرة العليا فإنّها كرّست اهتمامها على المراكز الحضرية الناشئة بالقرب من الأنهار كحال مدينتي الحسكة والقامشلي الحديثتين نسبياً، واللتان تأسستا مطلع عشرينيات القرن الماضي. بعبارة أخرى، لم تكن المدن لتؤسس لولا قربها من الأنهار في بيئة شبه صحراوية تنعدم فيها أسباب التجمّع في مكان قابل للاتساع، والمعنى إن المدن تفكَّك حال انعدام المياه أو ندرتها، ولا يجانب واحدنا الصواب إن تنبّأ بهجرة السكان مدنهم إن استمرت المشكلات الخدمية في التنامي كحال مشكلة المياه في الحسكة.
قد يَشقُّ البديل على الإدارة الذاتية لتزويد المدينة بمياه الشرب، والمياه القابلة للاستخدام اليوميّ، في ظل استمرار تركيا احتكار محطّة علّوك، وحيث لا سبيل إلى إرضاء تركيا في مقابل الحصول على الماء، فإن الإدارة رغم مشقّة الأمر عليها تدبّر الحلول لمشكلة لم يكن لها يد فيها، ذلك أن المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الإدارة تفرض عليها البحث عن البدائل، بمعزل عن المتسبب في الأزمة، رغم توارد المعلومات عن العمل على حفر آبار لتغذية المدينة بالمياه الجوفية.
منذ قرابة المئة عام، ثمّة هندسة تسعى إلى ربط التحكّم بالموارد المائية بسياسة الدولة، ربّما يكون ذلك حقّاً للدولة وجزءاً من أعمالها السيادية، شريطة ألّا يكون وليد سياسة تمييزية أو سعياً إلى هندسة المجتمع وفق رؤية عنصرية كما ورد في تقرير محمد كرد علي، لكن ما لا يمكن تقبّله أو تصوّره بالمطلق هو أن تقفز دولة على حدودها لتحتلّ أراضٍ في دولة جارة، ثم تمنع الماء عن بقية المناطق غير الخاضعة لسيطرتها دأباً على سياسات الاخضاع وخلق المشكلات والأزمات الخدمية.
تضرب تركيا حصاراً، عن بعد، على مدينة الحسكة، التي كان من حسن حظّها أنها بعيدة عن الحدود، وكان من سوء حظّها أن باتت تخضع لمشيئة تركيا، ثمّة إلى ذلك خسّة ووضاعة يصمان جريمة قطع المياه، والأهم من ذلك أنّ فرض الحصار على المدنيين يقع في عداد جرائم الحرب. لكن هل من مجيب؟!