الغضب العظيم لم يُخرِس "كهّان الفضيلة"

"حين يخرس الكهان يلتفت النّاس إلى جهة الفلاسفة"، هذا كلام للمغربي سعيد ناشيد، وقد سرد فيما يتجاوز المؤرخ، وصولاً لما بعد الواقعة التاريخية، وقائع يوم الفاتح من نوفمير 1755 حيث تعرضت لشبونة لزلزال كان الأكثر تدميرًا في التاريخ، آخذاً بطريقه أرقى الحواضر الأوربية الحافلة بالمتاحف والمكتبات والمسارح والكاتدرائيات ودار الأوبرا.

 

كان مركز الزلزال قد وقع قبالة السواحل الغربية البرتغالية، والأهم ووفق ما أرّخ ناشيد أن "هرع الناجون إلى الساحة المفتوحة لرصيف الميناء، تضرّعاً لله وأملاً في النجاة من الهزات الارتدادية"، ومما حدث فيما حدث، أن "ماهي إلا لحظات حتى انحسرت مياه البحر وانطلق طوفان بحري ليضرب ساحة الميناء ويغمر المدينة المهدمة ويُغرق الكثير من الباقين".

 

ـ ومتى كان ذلك؟

 

لقد صادف زلزال لشبونة يوم عيد القدّيسين، حيث كان معظم النّاس متواجدين داخل الكنائس لأجل الصّلاة وإحياء قدّاس العيد، وهو السّبب في ارتفاع عدد الضّحايا بفعل سقوط سقوف عشرات الكنائس على رؤوس المؤمنين، وبحيث لقي آلاف المصلّين حتفهم بجانب عشرات الرّهبان ورجال الدّين، في ظروف بالغة القسوة، دون أن ننسى أنّ للكارثة فصلاً إضافياً، حيث اشتعلت النّيران لعدّة أيّام في المناطق الّتي لم يطلها الطّوفان البحري، وذلك بسبب آلاف الشّموع الّتي أُشعلت في عيد القدّيسين قبيل ضربات الزّلزال، فانتهت النّار إلى إفناء كلّ ما هو قابل للاحتراق، علاوة على تراث ضخم من الكتب والمخطوطات النّادرة.. هذا كلام لسعيد ناشيد في سرده لتلك الواقعة التاريخية، ومعه:

 

ـ هل اكتمل مشهد المأساة؟

 

وفق ناشيد.

 

زلزال دمّر كل شيء، تلاه طوفان أغرق كلّ شيء، ثمّ نيران أحرقت كلّ شيء، وكلّ هذا "الغضب العظيم" حلّ في يوم مخصّص للصّلاة، والتّضرّع إلى الله، فهل بقي لأنصار العناية الإلهيّة من أقوال؟ّ!

 

الزلزال لم يصغ إلى الصلوات والقداديس، لماذا لم يفعل ذلك؟

 

ـ لأنه زلزال.

 

هذا كل مافي الأمر، ولم عليه أن يصغي إذا ماكان الزلزال حدثاً  يقع عندما تهبط قطعتين كبيرتين من قشرة الأرض بشكل مفاجئ، ما يجعل موجات الصدمة تتسبب في إهتزاز سطح الأرض على شكل مُدمِر؟

 

كان على ملك البرتغال أن يتمسك بعقله، ولأنه فعل ذلك فلقد فرّ من المدينة قبل حدوث الارتدادات الزلزالية، ليعيش بقية حياته داخل خيمة في مرتفع خارج العاصمة.

 

لقد وقع الزلزال، غير أن الكارثة العظيمة، كانت قد أنتجت فلسفة عظيمة ربما كان من تجلياتها فولتير / سبينوزا، اللذين مازالا يخيّمان على وعينا حتى ما بعد اكتشاف حركات الزلازل على يد تشارلز فرانسيس ريختر ذو الأصل الألماني، وقد ارتج العقل الجمعي بمبرراته القائمة على الثواب والعقاب.

 

ملك البرتغال، حمل خيمته واعتكف في الجبال، ذاك ماحدث، فيما وقف  حسين البالغ من العمر 32 عامًا، أمام مرقد فاطمة المعصومة بمدينة "قم" الإيرانية، احتجاجاً على قرار الحكومة الإيرانية بإغلاق ضريح فاطمة (المعصومة)، بسبب انتشار فيروس كورونا.

 

في إيران "لم يتم إغلاق أي ضريح من الأضرحة في بلادنا، حتى في وقت الحرب، لا أتخيل أنني ممنوع من الذهاب إلى مرقد المعصومة، والصلاة والدعاء هناك بسبب فيروس لعين». هكذا فسر حسين سبب تظاهره أمام المرقد مع عشرات الرافضين للقرار مثله.

 

وكان الفايروس قد وقع أول ما وقع في مدينة "قم" التي يتواجد بها ضريح فاطمة المعصومة أخت الإمام علي بن موسى الرضا، ثامن الأئمة عند الشيعة.

 

لقد استمر الإعلان عن الإصابات المتزايدة في مدينة "قم"، بينما استمر «الحجاج الشيعة» من الإيرانيين وغيرهم بزيارة الأضرحة، بالرغم من أن المدينة قد تم اعتبارها مركز تفشي الفايروس في الجمهورية الإسلامية بأكملها.

 

في  مقطع مصور تناقلته الوكالات،  يقف أحد الرجال أمام ضريح فاطمة المعصومة بمدينة "قم"، ويقول بغضب: «لم يستطع أحد منذ أربعة قرون إغلاق هذا الضريح»، معلنًا هو ومن معه أنهم سيحمون الأضرحة برمش العين، بل واكثر من ذلك "سيكون وحل الأضرحة وغبارها، بمثابة لقاح يتجاوز كل اللقاحات".

 

علي خامنئي، وهو "المرشد الأعلى"، وظل الله على الأرض، ومعه مجموعة من رجال الدين رفيعي المستوى (أقل ظلاً منه يختبؤون في ظله) لم يلتفوا بعباءاتهم ليغادروا المدينة ويعتكفون في خيمهم بالجبال.. لقد كانوا رافضين بشدة إغلاق الأضرحة، وحتى تعليق الصلاة، وإغلاق المساجد.

 

على سبيل المثال، بعد أيام قليلة من إعلان وزارة الصحة الإيرانية عن وجود فايروس كورونا في البلاد، خرج الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، مستهيناً بأمر الفايروس بأكمله، بل شكك بوجود فايروس كورونا في بلاده واعتبره دعاية من صنع الأعداء، لإفساد الانتخابات البرلمانية الإيرانية. (بعد الإعلان عن الإصابات الأولى في إيران بفيروس كورونا بيوم، تم إجراء انتخابات البرلمان الحادي عشر، وسط إقبال جماهيري ضعيف).

 

وبدلاً من أن يدعو الإيرانيين إلى اتخاذ التدابير الصحية اللازمة، لمنع انتشار الفايروس، اكتفى فقط بدعوتهم إلى تلاوة أدعية )الصحيفة السجادية)*

 

في مدينة "قم"، ذهب السيد محمد سعيدي المسؤول عن مرقد فاطمة المعصومة إلى أبعد من ذلك بكثير، في إعلان رفضه إغلاق الضريح، فقال "الضريح دار شفاء، يأتون الناس إلى هنا للشفاء من الأمراض العقلية والروحية والفايروسات، فكيف يتم إغلاقه في وجوهم".

 

في النهاية، ومع زيادة وتيرة عدد الإصابات بالفايروس في إيران، وجد رجال الدين الرافضين للإغلاق، أنهم أمام كارثة حقيقية لا ينقصها الجدال الفقهي على إغلاق أو فتح أضرحة، فامتثلوا لقرار الحكومة، ووافقوا على الأمر.

 

لقد وافقوا عليه مرغمين، غير أنهم هتفوا :

 

ـ "الحرس الثوري" بمواجهة كورونا.

 

وكنا قد سمعنا من دمشق صوتاً يهتف:"جيشنا الباسل سيقضي على كورونا كما قضى على المسلحين الإرهابيين"، وهكذا قاربت السلطات الإيرانية الجائحة باللجوء إلى المقاربة السرية والعسكرية وبهيمنة غياب المساءلة وحالة الارتياب على سياسات الحكومة، والتي تشمل تجنب التعاون متعدد الجنسيات، ورفض المساعدة، ومنع دخول المنظمات الدولية مثل "أطباء بلا حدود". وبلغ الأمر بالرئيس حسن روحاني أن يدعي بأن إيران "سوّت المنحنى"، وفتكت بالجندي المجّند كورونا، مع أنه حتى النماذج المتحفظة الصادرة عن جامعات كبرى ومن بينها "ساوث ويلز" و "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا-فرجينيا التقنية" مازالت تتوقّع أن الوباء سيبلغ ذروته في إيران هذا الصيف. 

 

كورونا، وقد أصاب دولاً إسلامية عدّة أبرزها إيران، لم ينتج حتى اللحظة تشارلز فرانسيس ريختر، لا، لقد أعاد وبكل الثقة ما يسمى بـ ":فصل الخطاب"، ولفصل الخطاب يكفي الاكتفاء بالوحيين، الكتاب والسنة،  فالبلاء آية سماوية تهدف إلى التذكير والعظة «وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا»، يخاف العاصي فيتوب ويخاف المؤمن فيزاد إيمانه ويقينه و"لا يورد ممرض على مصح»، فحلّ أبو هريرة مكان فولتير، وجاء من بعده البخاري ليحل محل سبينوزا، أما العقار المضاد للبلاء فهو"كتاب الصحيفة السجادية"،  ومازال طوفان كورونا يطوف حول الكعبة لرمي جمرات العيد.. الأجساد ملتصقة بالأجساد، والأنفاس تنفث على الأنفاس، ومأساتنا أننا لانعرف كيف نموت.

 

ـ كما الحال أننا لانعرف كيف نعيش.

 

ظلال الله، احترقت تحت وابل طوفان لشبونة، وانتعشت في بلاد المسلمين تحت ظلال حراس الله، وبالنتيجة:

 

ـ الزلزال لم يًخرس الكهان.. ولم يلتفت الناس إلى الفلاسفة.

 

مع أنه الطوفان.

ـــــــــــــــــ

* كتاب الصحيفة السجادية..  تقرأ الفاتحة و تهديها للمؤمنين و المؤمنات وصلوات بتعجيل ظهور المهدي والفرج.. هو مجموعة دعاءات لزين العابدين بن علي.