علمٌ بوجهين

 

على أكتاف مقاتلي مليشيا المعارضة، ثمّة أعلام وشارات، قلّ نظيرها في شتى جيوش ومليشيات العالم لشدّة تعدّدها، في حين أن أكثرها إثارةً للحفيظة هي تلك الأعلام التركيّة، ذلك أن الأمر تخطّى مفاهيم الصداقة والولاء والموالاة، إلى حدود التماهي بجيش دولةٍ أخرى والانصياع لمصالح حكومة أجنبيّة وتعليماتها وقراراتها، حرباً أو استسلاماً، ولعلّ التأسيس الأوّل لرفع الأعلام جاء في مظاهرات الاحتجاج التي أباح فيها معارضون رفع الأعلام التركيّة على اعتبار أن أنقرة وحكومتها يقفون إلى جانب الثورة السورية!

 

تحيلُنا مسألة الولاء المطلق للسياسة التركية، ومثالها الرمزيّ المتمثّل بالأعلام التركية المرفوعة على الصواري والدوائر الخدميّة في شتى مناطق المليشيات المسلّحة، إلى ظاهرة شبيهة حدّ التناسخ بين ما يحصل الحين وبين ما أقدم عليه "سوريون" قبل حوالي مئة عام من اليوم، ففي المناطق التي أدار منها إبراهيم هنانو معاركه ضد المستعمر الفرنسي خلال الربع الأوّل من القرن العشرين، بلغت الأمور حدود الاستعانة بالتركيّ، طبقاً لقاعدة أن المصلحة العربيّة -التركية المشتركة تقتضي تضافر الجهود لهزيمة الفرنسيين في سوريا الوليدة وذلك بالركون إلى جواذب الدين والتاريخ المشتركين، وهو مما لم تذكره كتب التاريخ المدرسيّة، حيث أن هنانو ارتضى وزملاءه رفع العلم التركي فوق معسكرات الثوار، ولعل السؤال متأخر مئة عام بالتمام والكمال، فهل كان ما حصل حينذاك فيه مصلحة للسوريين التوّاقين إلى الحفاظ على الاستقلال الذي خطّته اتفاقية سايكس – بيكو عبر الاستعانة بمحتلّ الأمس للتخلّص من محتل اليوم؟  أبرم هنانو في 6 أيلول 1920 اتفاقيةً مع الجانب التركيّ، وقّعها قائد الجيش التركي في مرعش، الجنرال صلاح الدين عادل، تضمّنت عدم تحديد الحدود بين سوريا وتركيا إلى حين جلاء العدو (الفرنسي) وحصول البلدين على استقلالهما التام.

 

في الأثناء وافق هنانو على علم مثير للريبة والذي كان عبارة عن "علم بوجهين" الوجه الأول وهو العلم العربي مكتوب في متنه عبارة "إنّما المؤمنون أخوة" فيما الوجه الآخر حمل العلم التركي وعبارة "فأصلحوا بين أخويكم". وبالإضافة إلى عدم ترسيم أو تحديد الحدود بين الدولتين اقتضت الاتفاقية أن تقدّم الحكومة التركية "المدرّبين للثوّار على أن يعودوا إلى تركيا بعد تدريب السوريين"ـ بيد أنّ السنوات القليلة أثبتت أن لتركيا مآرب أخرى، تتجاوز حديث الإخاء الذي ورد في نص اتفاق عادل- هنانو، إذ باشرت تركيا ترسيم الحدود مع سوريا الفرنسية، بشكلٍ منفرد، دون العودة إلى السوريين وفق مراحل شد وجذب بينها وبين مفوّضيّ الاستعمار، وفي كلّ مرّة كانت تقضم الأراضي التي سعت الثورة العربية الكبرى ضمّها إلى الملك العربي العتيد، فوق ذلك توقّف المدد العسكري التركي للثورة والثوّار، ولعل "سلخ" لواء إسكندرون بشكل مبرم 1939 أنهى كل أفق سوري يتوسّل الاستقواء بالتركي للتخلّص من الفرنسيّ.

 

بطبيعة الحال لا يمكن التفتيش في نوايا هنانو الوطنية وقتذاك، ذلك أن الوطنية السورية كانت رخوة وفي بداياتها، والانفصال الذي حدث عن الجسد العثماني كان مربكاً إزاء حلول استعمار غربيّ لأول مرّة، وهو ما لم تألفه المنطقة منذ قرون طويلة، كما أن استحضار مثال من الماضي لا يعني إقامة محاكمة تنال من شخصيات تاريخية لا يسعها المقام هنا، لكن في المقابل ثمّة درس مفيّد ومخبّأ في ثنايا سيرة "التعاون" السوري التركي لجهة الاستقواء بالخارج، بتركيا، فما يجعل هذا المثال راهنياً بدرجة كبيرة هو مقدار التشابه بين ما أقدم عليه هنانو رفقة عصبة من زملائه المسلّحين في الشمال الغربيّ لسوريا وبين ما يدور في هذه الغضون من اتكال سوريّ معارض مسلّح على عضلات تركيا في سبيل الإطاحة بحكم الأسد وتقويض الحضور الروسي، وفي ذات المنطقة التي خرج منها هنانو على الاستعمار.

 

  وفقاً للخط البياني للتعاون بين سوريين "معارضين" والحكومة التركية فإن سياسة إسقاط النظام السوري باتت شيئاً من الماضي، رغم الرطانة الخطابية للحكومة التركية التي ترى في بقاء النظام خطراً على تركيا ومصالحها، فيما تشير الوقائع على الأرض إلى قبول أنقرة للواقع الذي فرضه الحضور الروسيّ وأن المعارضة بشقيها العسكري والسياسي، الموالية لتركيا والمتدثرة بعلمها، إنّما فقدت كل قدرة على تسجيل تحفّظ هنا أو رفض هناك على السياسة التركيّة التي باتت تكشف عن وجهها الحقيقي كالترانسفير المعدّ للاجئين السوريين صوب أوربا بغرض ابتزازها، والاستحكام بالحل السياسي عبر اختيار الفريق السوريّ المعارض من الألف إلى الياء، وصولاً إلى تحديد الأعداء الواجب على المعارضة المسلّحة قتالهم، كما في حالة توجيه بنادق المعارضة إلى الكرد، والقبول بمقررات المؤتمرات واللقاءات التركية الروسية على المستويين الأمنيّ والحكوميّ، فضلاً عن الانصياع لاستراتيجيات تركية مسكونة بفكرة التوسع والتدخل في شؤون دول بعيدة كإرسال مقاتلين سوريين إلى طرابلس الليبية للقتال إلى جانب حكومة الوفاق.

 

ثمّة فارق بين ما أقدم عليه هنانو وبين ما يقدم عليه مسلّحو المليشيات والمعارضة الموالية لتركيا، إذ أن البراغماتية الضحلة للأوّل قادته إلى القبول بالعلم ذي الوجهين، والذي عنى علوّ كعب تركيا في سوريا، وقد كان الأمر رسالة تركية بالغة الوضوح موجّهة إلى الفرنسيين مفادها إمكانية التسبب بصداع مديد للانتداب الجديد، لكنه كان في أسوأ الأحوال، علماً بوجهين. في حين أن "علم الثورة" غدا حائل اللون، وباستخدام المجاز، يمكن القول: لم يتبقَ من صيغة العلمين سوى العلم التركيّ على الوجهين اللذين ترفعهما المعارضة والمليشيات المسلحة الموالية لتركيا.