شورش درويش
أفضت خطّة تيرييه، الملازم أوّل الفرنسيّ والمسؤول عن ملف الجزيرة في ثلاثينيات القرن العشرين، إلى بروز ما اصطلح على تسميته "قومية السهل" أو قومية المناطق السهليّة، حيث التحالف الكردي السرياني-الآشوري العربيّ في حيّز واحد، ومداره منطقة الجزيرة العليا.
دفع اضطراب هذه المنطقة الخارجة من الفضاء الامبراطوري العثماني وتحوّلها إلى منطقة طامحة لأن تصبح في وضع أقرب لما آل إليه لواء إسكندرون بُعيد الترسيم الحدودي بين فرنسا وتركيا في العام 1921، أو لكي تحظى بشيء من الكيانية الذاتية أسوةً بدويلتي العلويين والدروز، على أن الانطلاقة الأولى لحركة كيان الحكم الذاتي انطلقت في العام 1933 نتيجة لتحالف الثلاثيّ ميشيل دوم رئيس بلدية القامشلي، وحاجو آغا، ومحمود إبراهيم باشا الملّي، لاحقاً ستتسع الحركة وتتبدّل شخصياتها المؤثّرة وستضمّ إليها أسماء أخرى، وستندلع أحداث 1936و1937 في الجزيرة، ثمّ وبالتدريج ستبدأ شمس حركة الحكم الذاتي بالأفول مع مرور الوقت.
وفقاً لممثّلي حركة الحكم الذاتي تلك، يمكن الحديث عن "قومية جديدة" كادت أن تبرز إلى السطح، أو وطنية جديدة اتخذت لنفسها عنواناً عابراً للقومية والدين، ساهمت في تدعيمها اعتبارات عدّة من ذلك تطوّر الشكل المديني الذي اشتغلت عليه فرنسا في المناطق الشمالية من سوريا الفرنسية حيث تحوّلت المدن الجديدة، الحسكة والقامشلي والدرباسية… إلى نماذج بديلة عن المدن التي خلّفتها الترسيمات الحدودية وراءها، كنصيبين وماردين وديار بكر… إلى ذلك لم تتشكل في تلك الأثناء حركات قوميّة/عرقيّة نابذة للجماعات الإثنية الأخرى، إضافةً إلى بعد دمشق عن مجرى الأحداث الداخلية حتى 1936 وهو عام إبرام المعاهدة السورية الفرنسية، حين بدأت فرنسا في إدماج الجماعات الكردية والمسيحية والعربية في الدولة السورية، لكنه لم يكن إدماجاً في الحكم الوطني.
ينبئنا جوردي تيجبل، في كتابه المخصص لدراسة أحول أكراد سوريا، حول ابتكار أعضاء حركة الحكم الذاتي لاحتفالات تؤكّد واقع الخصوصية والتمايز عن المحيط السوري الناشئ في مقابل عدم الرغبة في العودة إلى رميم العالم العثماني المندثر أي الدولة التركية الناشئة، ففي آب/أغسطس 1937 أقيمت مهرجانات ألقيت فيها الخطب بالكردية والعربية وأنشدت الأغاني القومية وأقيمت "مهرجانات تظهر تقاليد السكان المحليين" في إشارة إلى ضم التعدد الإثني والطائفي إلى "المجال العام"، وفي غضون ذلك صيغ نشيد إقليمي بعنوان "الجزيرة لنا" وهو النشيد المفقود الذي لم نعثر على مفرداته حتى الآن، وبحسب القنصل العام البريطاني في حلب وضعت حركة الحكم الذاتي لنفسها علماً وهو عبارة عن لونين من ألوان العلم الفرنسي مع رمزي الهلال والصليب وسنبلتي قمح على خلفية بيضاء، وأيضاً كحال النشيد المفقود لم يُحتفظ بنسخة عن علم الحركة، والذي ربّما وضع بشكلٍ ارتجاليّ.
عند تتبع مسيرة الحكم الذاتي، يمكن بسهولة استنتاج "الوعي المطابق للواقع" لروّاد الحركة التي لم تكن حركة عرقية أو تخصّ إثنية بعينها، بل كادت تؤسس لقومية جديدة وفق مفهوم "الأمة" بشكلٍ مصغّر، وبالمعنى المقابل لمفهوم القومية العرقي، إذ إن تخيّل رابطة قومية أو وطنية وفقاً لما يحدّده واقع التداخل الإثني والديني في هذه المنطقة يعني إمكانية نجاح تجربة الحكم الذاتي، وبما يقلّل من مخاطر الصراعات الأهلية، لكن حصافة القائمين على المشروع ذاك لم تحُل دون إخفاق المشروع نتيجة عوامل موضوعية، إذ يمكن تتبّع أصابع تركيا في المشهد العام وعدم رغبة فرنسا في إغضاب أنقرة ونهوض الحكم الوطني، فضلاً عن عوامل ذاتية متمثّلة في الانقسام الحاد بين كتلتي الحكم الذاتي وكتلة الحكم الوطني وبينهما كتلة ثالثة تلاشت مع الزمن عملت تحت إمرة تركياـ
ثمّة شيء من روحية الثلاثينات يسري عبر المشهد العام الذي تعيشه الجزيرة العليا في هذه الأثناء أو ما اصطلح على تسميته شمال شرقي سوريا، لا يعني هذا أن قيام حالة حكم ذاتي (الإدارة الذاتية) أنها استلهمت تجربة الثلاثينيات، ولا يعني أن التجربة الحالية محكومة بما آلت إليه سالفتها في القرن الماضي، بيد أن ما يطبع الواقع بلون الماضي هي مسائل الانقسامات الداخلية، والعداء التركي المستمر، ورغبة دمشق في هضم كل سوريا وإعادتها إلى حكمها المركزيّ حيث لا يجب على أحد أن يفلت من الجحيم المديد.
من الصعوبة إزاحة إثنية ما من المجال العام لصالح أخرى، وفوق أنه تصرّف شديد العنصرية، فإنه غير واقعي، ما يعني أن أحد الحلول هو الاحتكام إلى ما سمّي "قومية السهل" بصيغة محدّثة، تستوعب الجميع في داخل نظام سياسيّ وإداريّ جديد هو الممكن والواقعيّ، إذ أن التسميات التاريخية للمنطقة لا يجب أن تحول دون التفكير في إرساء نظام حكم تشاركيّ، مبنيّ على أساس التعايش الطوعيّ وصولاً إلى الاندماج الحر في مجتمع جديد مبنيّ على أنقاض مجتمع قديم أدمته الحرب وأوجعه الاحتلال، واستنزفته وقسّمته الدولة المركزيّة. لا تعني الإشارة هنا إلى فكرة "قومية السهل" وجوب اختلاق قومية جديدة والأخذ بالفكرة حرفياً، حيث سيكون مثل هذا الاختلاق أمراً عبثياً وربما مبتذلاً.
في الفترة القريبة الماضية، انتشر نمط جديد من الأغاني التي تمثّل التعدد القومي والثقافي في المنطقة، مقطوعات كردية وعربية وآشورية في أغنية واحدة، ورغم أنها أغانٍ لا تتلفّظ بعبارات خطابيّة حول الوطن أو القومية ولا تتلطى خلف تعابير إيديولوجيّة، وهو أفضل ما فيها، فإنها بالقدر ذاته تعكس تراث المنطقة وإمكانية تجاوره وامتزاجه في أعمال مشتركة، ما يعني إمكانية أن تتحوّل هذه الأغاني إلى طبعة منقّحة من نشيد "الجزيرة لنا" بمعزل عن أنّه نشيد مفقود لم يصلنا مذ ردّدته الشبيبة في ثلاثينيات القرن العشرين.