ولكنهم مستوطنون!

 

ضيّقت منظّمة حقوقيّة سوريّة، في وقت سابق، على من أطلقوا توصيف "مستوطنين" عند الحديث عمّن احتل عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، ذلك أنّ رهافة مؤسسات الرقابة الحقوقية تضع هذه المفردة في سياق "خطاب الكراهية" في عملٍ يصح القول فيه أنه أقرب إلى صيغة كم أفواه الموجوعين من احتلال تركيا مدنهم وقراهم وبيوتهم، وإسكان عشرات الآلاف مكانهم، فيما شرّد السكّان الأصليون، معظمهم كرد سوريون، إلى مخيّمات ومدنٍ ليست مدنهم، حصل ذلك في أكبر عملية تغيير ديمغرافي عرفتها سوريا قبل وبعد الحرب اختلطت فيها الاستراتيجية التركية الرامية إلى تبييض الحدود مع حركة إيواء أشقياء الميليشيات المسلّحة الموالية وعائلاتهم وتوطينهم في المناطق الكردية السورية.

 

لا تحضُّ كلمة مستوطن على الكراهية، لكنها قد تفهم في سياق تشبيه الكرد بالفلسطينيين، بينما يتحوّل الأتراك والميليشيات ومن رافقهم إلى مستوطنين/ إسرائيليين، مع ذلك تحوي مثل هذه المقاربة على جوانب صحيحة، إذ أن من يغتصب الملكيات العقارية والزراعية والتجارية، لتؤول إليه دون وجه حق، وأن تكون عملية السطو على البيوت الشاغرة جزءاً من سياسة احتلال تركيّ غير معلن، وإفراغ المنطقة من العنصر الكرديّ في مقابل إحلال عناصر أخرى تكون أكثر ارتباطاً وانسجاماً مع السياسة التركية.

 

يمكن في سياق الحديث عن هندسة المنطقة وفق رؤى عنصرية، الاستئناس بمقترحات الضابط في الأمن السياسي محمد طلب هلال، في كرّاسه المشؤوم "دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية الاجتماعية السياسية" والذي استلهم نموذج "الكيبوتس" الإسرائيلي (مستوطنة زراعية وعسكرية) وثبّته في مقترحاته لحل "المشكلة الكردية" حيث حدد هلال في مقترحه العاشر "إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي على أن تكون هذه المزارع مدرّبة ومسلّحة عسكرياً كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً".
 

 استلهم الملازم أول هلال النموذج الإسرائيلي للتعامل مع الكرد، في مزيج من التهوّر والكراهية والانبهار بالمستعمرات وحركة الاستيطان، بينما تعرف تركيا، التي لها سوابق استيطانية في شمال قبرص وكردستان والجزر اليونانية والتي هي هنا منحازة عن النموذج الإسرائيلي، مغبّة تعريف الأمور كما هي حيث هي دولة احتلال، والمرتزقة هم أدواتها في الاستيطان وتغيير النسيج السكاني لمناطق عفرين وسري كانيه وتل أبيض، وعليه لا مصلحة لتركيا ولا لمرتزقتها أو اللائذين بها في تسمية مشروع الاستيطان باسمه الصريح، بذا يكون عار محمد طلب هلال نقيّاً، فيما عار تركيا ومرتزقتها غبش وعكر ويحتاج منّا كشفه على رؤوس الأشهاد، على اعتبارنا "أم الصبيّ" والمعنيين بالمسألة، سواء صنّفت منظمة حقوقية الاحتلال والاستيطان خطاب كراهية أم لا.

 

لجلاء الموقف أكثر يمكن القول إن حركة النزوح باتجاه المناطق الكردية السورية لم تتوقف مذ أفضت الحرب إلى حركة نزوح داخلية متعاظمة مع اشتداد المعارك في المناطق السكنية، إقامة النازحين في عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض لم تتوقف طيلة سنوات الحرب، لم يكن في الأمر فضل أو منّة كان حقّ السوريّ في الانتقال من مكان إلى آخر أكثر أماناً، طالما أن النزوح لا يحمل دلالات سياسية متعمّدة كالتغيير الديمغرافي أو يخفي توجّهاً سياسياً، إلى ذلك فقد كان نزوحاً فعلياً حيث يقطن النازحون في بيوت لقاء أجار شهريّ بينما المعسّرون فقد أُعدت لهم مخيّمات ومدارس وبقي سوق العمل مفتوحاً للوافدين. غير أن الحرب على هذه المناطق بدّلت من التوصيف، إذ لم يكن الذين جاؤوا على ظهر الدبابة التركية نازحين كما الآخرين، بل قاموا باقتلاع السكان الأصليين والسطو على بيوتهم ومحالهم ومزارعهم، وهدّم مقابر ذويهم وشهدائهم، وفرضوا أنماط حياة جديدة على من تبقّى من سكّان، لعل الشكل المتشدد للإسلام السياسي كان الغالب في عملية تجريف هوية المنطقة، والمعنى، بماذا يمكن وصف هذه الجماعات في حال استبعدنا صفة النازحين عنهم، ألا تصبح كلمة مستوطن أقرب للوجدان والعقل بدل تغليفها بكلمة تحمل دلالة إنسانية مثل "نازح"؟.

 

 ألا تجعل كلمة نازح الطرف المحتل ومرتكب الجرائم طرفاً مسالماً، في الوقت الذي يضيع معه حق من طردوا من بيوتهم وسلبت ممتلكاتهم وباتوا هائمين في البراري الموحشة والمخيّمات والمدن التي ليست مدنهم؟.

 

لا علاقة لتوصيف سوريين لسوريين آخرين بالمستوطنين بتقسيم البلاد إلى دولتين، واحدة عربية وأخرى كردية، حتى يصدق وصف المحتل أو المستوطن على الطرف المتورّط في أعمال الطرد والإحلال السكاني العنصري، إذ سبق لشيوعيين روس أن وصفوا حكم القياصرة من آل رومانوف بأنه "احتلال داخلي" رغم أن الاحتلال يفترض دولة باغية محتلَّة وأخرى مستباحة وقع عليها الاحتلال، لكن الحاجة إلى التوصيف المناسب اضطرهم إلى القول بالاحتلال الداخلي، بالمعاني ذاتها ألا يمكن إطلاق لفظ "الاستيطان الداخلي" اضطراراً، سيّما وأن الطرف المحتل لم يفرغ المنطقة فحسب أو يفرض احتلاله على منطقة يقطنها سكّان محلّيون.

 

يحاذر واحدنا عند إطلاق ألفاظ وتسميات قد تحوي في جوهرها معانٍ مرتبطة بالكراهية أو محرّضة على العنف، لكنّ اعتماد مقاربات جديدة لوصف الأحداث المستجّدة وغير المسبوقة تتطلّب الاجتهاد أو حتى العفويّة في إطلاق التسميات.

 

في المروية الأكثر شهرة عن الفلكيّ جاليليو المتأثر بنظرية كوبرنيكوس حول مركزية الشمس ودوران الأرض، أشيع أن جاليليو مثل أمام محكمة تفتيش، وطلب إليه سحب كلامه عن دوران الأرض الذي لا يتوافق وآراء الكنيسة في مقابل إعفائه من عقوبة السجن، في البداية تراجع جاليلو، نال صك البراءة، لكنّه تمتم قبل خروجه من قاعة المحكمة/ الكنيسة بالقول "ولكنها تدور".

 

والحال قد تطلب منظّمات حقوقية تغيير وصف مستوطنين، قد ينزل واحدنا أمام رغبتها تلك، ولكنهم رغم ذلك مستوطنون!.